صور محامين

المحامي 1933
قسم المقالات الحقوقية

صور محامين
بقلم المحامي فؤاد رزق

وجد المحامون مبدئياً لخدمة الحقيقة ومساعدة القضاء على احقاق الحق وللتمتع بلقب ‘‘ محامٍٍ ’’ شروط كثيرة لو أُجبر المحامون على التقيد بها لما وجد من ينكر على المحاماة عظمتها أو يشك بأنها أشرف المهن الحرة .

ومن أهم هذه الشروط :

1-أن يكون المحامي شريفاً رفيع الجانب عزيز النفس ابيّها . ولأجل تحقيق هذا الشرط منعت اكثر النقابات على المحامين الاتيان بأي عمل كان لا يأتلف على مع هذه الصفات حتى ان بعضها أوجدت لنفسها حق الرقابة على حياة المحامين الخاصة ففرضت عليهم واجبات كثيرة تقيد حريتهم بصورة تضمن سمعتهم الأدبية .

2-ان يكون مسقيماً صادقاً . ولذلك كان المحامي ولا يزال يستهدف للعقوبات التأديبية القاسية ومن جملتها الطرد من سلك المحاماة عندما يعطي رأياً يضلل القضاء أو يأتي بأعمال تساعد على البطل أو يورد وقائع يعرف بكذبها.

3-ان يكون عفيفاً سمحاً نزيهاً . ولأجل ذلك أوجب على المحامي التضحية بمصلحته المادية بحال تعارضها مع مصلحة موكله .

4-ان يكون مستقلاً تمام الاستقلال غير تابع أو مقيد برأي أحد .

وتطبيقاً لهذه المبادىء كانت نقابات المحامين والمحاكم العليا التابعة لها ترفض قبول المحامي وتمنعه من تعاطي المحاماة الى ما بعد التحقق عن ماضيه والتوثق من انه متصف بكل الصفات التي تؤهله للتمتع بلقب ‘‘المحامي’’ وان سمعته الأدبية لا تشوبها شائبة (1) وقد بلغ بها من تضييقها على المحامين ان طردت أحدهم من سلك

المحاماة بسبب تعاطيه معاملات خصم السندات التجارية واستيفائه قوميسيوناً فاحشاً على هذه المعاملات(2) معتبرة ان عمله هذا لا يأتلف مع شرف المحاماة كما أنها قررت عدم قبول محامٍٍ في سلك المحاماة لأنه عُرف بالهوس (3) واخر لوجود ديون عليه وعدم إيفائها (4).

وبعضها أصدرت عقوبات مختلفة بحق محامين لأن أحدهم ذكر في مدافعته وقائع غير حقيقية مؤكداً صحتها (5).

وآخر لاتيانه بحركات مخجلة في بيته والطريق العام (6) وآخر لأنه امتنع عن إبراز مستند موجود بيده(7) و آخر لأنه سعى للتخلص من دين عليه (8) وآخر لمطالبة موكله بالاجرة بواسطة القضاء (9).

ومن يتأمل فيما تقدم يدرك أهمية المحاماة من الوجهة الأدبية ولا يتردد عن القول مع فولتير ‘‘ كم أتمنى لو كنت محامياً ، فالمحاماة هي أجمل مهنة في العالم ’’ .

ومع هذا فإن الكثيرين من الناس ينظرون الى المحاماة غير هذه النظرة ويعتقدون السؤ بالمحامين ويعتبرونهم ضربة على القضاء والمتقاضين .

فقد قال فيهم علاء الدين الكندي (10)

ما وكلاء الحكم ان خاصموا
الا شياطين أولو بأس
قولهم غداً شرهم فاضلاً
عنهم فباعوه على الناس

وقال بهم ‘‘ دلا كروا فرانفيل ’’ في عهد كانت فيه المحاماة في فرنسا في دور انحطاط :

‘‘ان الله لما أنزل ضرباته على مصر نسي أشدها واشنعها وهي ضربة المحامين فان غضبه اختص بها فرنسا’’.

ولا عجب اذا تخوّف الناس من المحامين ونظروا اليهم هذه النظرة فإن فئة منهم تفسد على المحاماة سمعتها وتخفض من قدرها وتجعلها في أعين الناس من أحطّ المهن وأحقرها وهذه الفئة التي تتبرأ منها المحاماة هي التي أصورها لك الآن أيها القاريء الكريم .

المحامي المحتال

تدخل الى مكتبه فيقابلك بابتسامة الخبث والدهاء يسمع أقوالك وهو يفكر مقدماً في تحريفها على الصورة التي تلائم القضية ، لا يعرف كلمة ‘‘لا’’ . عندما تسأله رأيه في الدعوى يقنعك بأن جميع القضايا تكونناحجة اذا صورها على ما يريد وسيرها كما يريد فهو يعتمد في ربح القضايا على مقدرته في ضروب الحيل . يعرف منك حقائق القضية ثم يحذف منها ما يشاء ويضيف اليها ما يشاء ، فهو الذي يخلق القضية ويصور وقائعها .

يعلمك الحيل القضائية متباهياً بمقدرته في الاحتيال ويعلمك الكذب مفاخراً بتفننه بالاختراع . ينتهز الفرص للاستفادة من جهل خصمه فيأخذ منه بالحيلة أقوالاً لا يعرف نتائجها . يغالط شهود خصمه ليبطل شهادتهم مع علمه بصدقها. يستغل من القانون مسائله الشكلية المعقدة متخذاً أصول الحاكمة وسيلة لإضاعة الحقوق . اذا عرف ان دعوى موكله غير ناجحة التجأ الى طرق التأجيل والتسويف غير مراع للضمير حقاً . اذا نبهه القاضي طلب رده، واذ أنس منه اسراعاً في رؤية الدعوى وخشي سؤ مصيرها طلب نقلها لمحكمة أخرى أو تغيب عن المحاكمة لقتل الوقت بالاعتراض . يستأنف كل الأحكام ويميزها ولا يترك طريقاً من طرق التظلم بدون أن يسلكه ليؤخر الدعوى فيحمل موكله الخسائر العظيمة وكل ذلك كي لا ينفضح أمره ويعلم موكله انه قد خُدع . ومتى خسر دعواه في منتهى درجات المحاكمة بعد مرور عدة سنين عليها نسب هذه النتيجة لجهل القضاة أو ظلمهم .

وقد لا تصادف معاذيره هذه عند الموكل قبولاً فيعود ويأتيه بالعذر الأقبح من ذنب قائلاً ‘‘ لولاي لما عاشت دعواك الى اليوم ’’ فيجيبه الموكل : ‘‘ ليتها لم تولد ولم تعش ’’.

المحامي الممثل

هذه قاعة المحاكمة تغص بالمتفرجين والناس يأتونها زرافات ليستطلعوا سر الجلبة القائمة فيها . فادخلها معي وانظر هذا المحامي يلقي دفاعه .

صوت يقصف كالرعد .

عينان تلتفتان تارة وطوراً الى المتفرجين.

يدان لا تقفان عن الحركة تارة ترتفعان وطوراً تنخفضان وحيناً تضربان على المنضده ضربات تهتز لها جوانب قاعة المحاكمة .

يسير يمنة ثم يسرة ويتقدم تارة الى الامام ويتأخر طوراً الى الوراء .

ينظر الى خصمه نظرة الهازيء وهو ينهال عليه بقوارص الكلام ويستغرب كل جهة يوردها وكل كلمة يقولها .

يستنزل السماء العدل ويطنب في مدح صفات القضاة وأخلاقهم فيرفعهم الى مصاف الآلهة .

واذا اضطر القاضي بسبب تراكم أشغاله أن ينبهه بعبارة معتادة ‘‘ وبعد الطوفان ؟ ’’ أخذ يرغي ويزيد ويتهم القاضي بأنه يحرمه حق الدفاع فيواصل دفاعه ولا ينتهي منه إلا وترى العرق يتصبب من كل جسمه وهو يلتفت الى الوراء ليرى تأثير كلامه على عامة الناس فيبتهج اذ يرى منهم علائم الاستحسان بينما القضاة يتنفسون الصعداء نافضين غبار الملل والضجر .

وعندئذ لا يسعك أن تسأل عن موضوع تلك الدعوى الهامة التي يرافع بها فتعلم انها تدور على ما قيمته خمس ليرات فتفهم ان الدفاع لم يكن إلا لأجل الاعلان وان المسألة مسألة تمثيل رواية للمتفرجين البسطاء .

المحامي الكذوب

يستلذ الكذب ويعتقد ان المحامي لا ينجح اذا صدق . اذا دافع من الوجهة القانونية استند الى نصوص مختلقة وقرارات لا وجود لها واذا سرد وقائع القضية اختلق من الوقائع الكاذبة ما لا أثر له الا في مخيلته لا يعرف لسانه الإقرار فهو ان سئل ولو عن إسم موكله تناساه . ينكر كلما يقوله ويدعيه خصمه ويطلب عليه اثباتاً لا لفائدة يرجوها لموكله ولكن حباً بالكذب واملالا لخصمه . الانكار خطته المعتادة . واذا لم ينكر ادعى ان الذاكرة تخونه. يشاهد أمام عينيه أموراً محسوسة ويلمسها بيده وينكر وجودها وذا وجه القاضي لموكله سؤالاً همس له الجواب همساً ليعلمه تحريف الحقيقة .

يستجوب الشهود في مكتبه قبل استجوابهم في المحكمة ويعلمهم الكذب .

يحب الشهادة كثيراً فبينما هو في موقف المحامي اذا به يصبح شاهداً لموكله يؤكد القضاة كذباً ان الأمور التي يرويها قد شاهدها بعينه وعرفها وتحققها بنفسه .

وبينما الناس في سرهم يستنكرون أعماله وأكاذيبه تراه يرويها أقاصيص أينما وجد متباهياً بها فخوراً .

المحامي الجاهل

تسمعه في أول مقابلاتك له كثير الاعجاب بنفسه يدعي العلم الناضج والاطلاع الواسع والرأي السديد . يجزم في صحة أقواله ويستغرب كل نظرية تعاكس نظرياته . يرى في راسه كل العلم فلا يستشير ولا يطالع . اذا دافع في نقطة قانونية فأول ما يقول أنها مؤيدة بالعلم والاجتهاد . واذا سأله القاضي عن نص أو اجتهاد يؤيد رأيه قال : ان ألوف النصوص تؤيده وجميع الاجتهادات تقره وقد يكون مخالفاً لكل النصوص وكل الاجتهادات .

دفاعه مملوء بالخيال والاطراء بعدل المحكمة .

واذا خسر دعواه اتهم القضاة بالجهل أو راح يمطر عليهم شكاويه ويتهمهم بالظلم والتحيُز مع أنه لو تروى لعرف أنه خسر دعواه أما لأنها غير محقة أو لأنه لم يحسن الدفاع .

المحامي التاجر

تنقصه الشهرة عن طريق العلم فيسعى اليها عن طريق الاعلان .

أعظم وسائل الاعلان عنده لسانه فهو يتكلم عن نفسه أينما وجد راوياً مواقفه القضائية الباهرة .

يلازم مخبري الجرائد ويغدق عليهم المال ليرووا أخبار انتصاراته .

يلتجيء الى السماسرة ليفتشوا له على الدعاوى ويقاسمهم الأجور .

يقضي قسماً من أوقاته متجولاً بين أصحاب المصالح التماساً لوكالاتهم .

بينما هو وكيلك اليوم تراه وكيلاً لخصمك في الغد لأنه دفع أكثر مما دفعت .

يتساهل بالأجور حين قبول الوكالة ويرضى بها ديناً على الموكل ولكن متى وقع موكله بالفخ يمتص ماله كما تمص العلقة الدم والمسكين لا يشعر .

تبدأ المعاملة معه كوكيل يدافع عن صالح موكله وتنتهي بدعوى منه على ذلك الموكل أو بدعوى ذلك الموكل عليه

هذه صور هؤلاء المحامين الدجالين .

هي صور كنت أود أن لا تجيء بها ريشة محامٍٍ لولا أن المحاماة في حاجة لمن يكشف الستار عن معايب بعض رجالها محافظة على شرفها وعظمتها .

 أن من المحاماة اليوم عناصر طيبة يجب أن تعيش لتعطي الثمر الطيب .

وهذه العناصر لا تعيش في محيط موبوء يضيع فيه الصالح بجريرة الطالح .

لقد مضى العهد الذي كانت فيه المحاماة واسطة للرشوة والمداخلات .

لقد مضى العهد الذي كانت فيه المحاماة طريقة لتعليم الناس الاحتيال والكذب والتزوير .

ان المحاماة لم تعد تجارة يقصد منها ربح المال فقط فهي كما قال بريه Berryer مهنة تكسب أحياناً المجد ودائماً الشرف ونادراً الثروة .

ان المحاماة لم تعد طريقة من طرق التمثيل فالمحامي يمكن أن يربح دعوى أو عدة دعاوى عن طريق التمثيل ولكنه يخسر ثقة القضاة الى الأبد متى علموا بأنهم قد خُدعوا .

ان محامي اليوم لا يفخر بغير علمه ولا يمتاز بغير شرفه وصدقه وأمانته .

ومتى كانت هذه صفات محامي اليوم فلا بد أن تستعيد المحاماة مقامها وان نجد من المحامين في الغد انصاراً للحق يقول كل منهم عندما يحاسب نفسه : ‘‘ اني لم أقل في مدافعاتي قولاً أخجل من اتخاذه سبباً لحكمي لو كنت قاضياً ’’ .

فؤاد رزق


  1. قرار محكمة استئناف باريس الصادر في 21 شباط سنة 1906 .
  2. راجع قرار محكمة التمييّز الأفرنسية المؤرخ في 8 تموز  سنة 898 وقرار محكمة إستئناف آلجريا المؤرخ في 6 شباط 907.
  3. راجع محكمة إستئناف ديجون المؤرخ في 24 تموز سنة 872 .
  4. راجع محكمة إستئناف ديجون المؤرخ في 31 تموز سنة 894 .
  5. قرار محكمة التمييّز الأفرنسية المؤرخ في 21 ت2 سنة 923 .
  6. قرار مجلس تأديب المحامين في باريس المؤرخ في 13 تموز سنة 880 .
  7. قرار محكمة إستئناف بو المؤرخ في 4 أيّار سنة 863 .
  8. قرار محكمة التمييّز الأفرنسية المؤرخ في 8 آذار 847 .
  9. قرار مجلس تأديبي في باريس المؤرخ في 13 حزيران 899 .
  10. عن مقال ” القضاء عند العرب ” للأستاذ عيسى المعلوف .