من الصعوبة بمكان مناقشة أي موضوع يتعلق بملف انفجار 4 آب لكثرة الآراء التي نقلتها وسائل الاعلام الى الجمهور وتضاربها في شأنه، وحالة الاصطفافات الشخصية والسياسية بل والطائفية حوله التي تساهم في تسويق افتراضات لا اساس لها وتحويلها الى حقائق مزعومة. وقد وصل الامر بالبعض الى استنكار ما تمّ من اطلاق سراح المعتقلين بعد احتجازهم دون سبب مشروع منذ ما يناهز السنتين ونصف السنة. وهو ما يشبه تحرير المحامية الاستاذة جيهان ابو عيد التي بقيت قيد حجز الحرية ما يناهز السنة.
ذلك ان ما تمّ في كل من الحالتين من اطلاق المعتقلين وتحرير المحتجزة حريتها لم يستند الى نص قانوني لبناني بل الى حقوق الانسان المعترف بها دولياً والتي تم في لبنان ابرام المعاهدات الضامنة لها. وهو ما يؤلف سابقة لا مثيل لها اوجبت كتابة هذه السطور.
أولاً: الاحكام التي تمنع الاعتداء على الحرية وفقاً لحقوق الانسان وفي القانون اللبناني
(أ) في حقوق الانسان المعترف بها دولياً
تم في لبنان ابرام الاعلان العالمي لحقوق الانسان والعهد الدولي للحقوق المدنية كمعاهدتين دوليتين.
فتمنع المادة 9 من الاعلان العالمي لحقوق الانسان القبض على اي انسان او حجزه او نفيه تعسفاً. وتعتبر المادة 11 منه كل شخص تنسب اليه جريمة بريئاً الى ان تثبت ادانته.
اما العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، المنبثق عن الاعلان، فإنه يتضمن في مادته التاسعة تفاصيل اكثر للضمانات لمنع الاعتداء على الحرية على النحو التالي:
فقد كرست الفقرة (1) من المادة المذكورة حق كل انسان في الحرية والامان الذاتي. فلا يجوز ان يعتقل او يحتجز اي انسان تعسفاً. ولا يجوز حرمان اي انسان من حريته الا على الاسس وبموجب الاجراءات التي يحددها القانون.
وتوجب الفقرة (3) منها ان يتم احضار المقبوض عليه او المحتجز في اسرع وقت امام المحكمة وان تتم محاكمته خلال فترة معقولة او ان يطلق حراً.
ونصت الفقرة (4) منها على حق كل انسان تم حرمانه من حريته بالاعتقال او الاحتجاز ان يباشر اجراءات قانونية امام محكمة لتقرر دون تأخير ما إذا كان احتجازه قانونياً وان تقرر اطلاقه إذا لم يكن احتجازه قانونياً.
أما الفقرة (5) والاخيرة منها فإنها تكرس الحق في التعويض لضحايا الاعتقال او الاحتجاز المخالف للقانون.
(ب) في القانون اللبناني
يمنع قانون اصول المحاكمات الجزائية (أ.م.ج.) احتجاز اي انسان في مرحلة التحقيق الاولى الا على ذمة هذا التحقيق ومن اجل انجازه بإشراف النيابة العامة وبقرار خطي معلل من النائب العام يفيد التثبت من مبرراته وذلك لمدة لا تتجاوز اربعة ايام كحد اقصى. فإذا تجاوز الاحتجاز المدة التي استغرقها التحقيق الاولي او حدّ الاربعة ايام فإن المادة 48 أ.م.ج. توجب ملاحقة الضابط العدلي بجناية حجز الحرية عملاً بالمادة 367 من قانون العقوبات. وهذا نصها:
“ المادة 367 ــــــ كل موظف اوقف او حبس شخصاً في غير الحالات التي ينص عليها القانون يعاقب بالاشغال الشاقة المؤقتة ”.
وتشمل كلمة “ موظف ” كل من هو في الادارات العامة والقضاء. وهذا هو نص المادة 350 من قانون العقوبات التي عرّفت من هو الموظف:
“ المادة 350 ــــــ يعد موظفاً بالمعنى المقصود في هذا الباب كل موظف في الادارات والمؤسسات العامة والبلديات والجيش والقضاء وكل عامل او مستخدم في الدولة وكل شخص عيّن او انتخب لاداء خدمة عامة ببدل او بغير بدل ”.
وتضمن قانون العقوبات في فصله المتعلق بالجرائم الواقعة على الحرية والشرف احكاماً منها:
“ المادة 569 ــــــ من حرم آخر حريته الشخصية بالخطف او بأي وسائل اخرى عوقب بالاشغال الشاقة المؤقتة. ويعاقب الفاعل بالاشغال الشاقة المؤبدة في كل من الحالات التالية:
1 – اذا تجاوزت مدة حرمان الحرية الشهر.
2 – اذا انزل بمن حرمت حريته تعذيب جسدي او معنوي… ”
وأكثر من ذلك:
فإن المادة 403 أ.م.ج. اوجبت على النائب العام والقاضي المنفرد اطلاق سراح كل من تم احتجازه بصورة غير مشروعة. وهذا نصها:
“ المادة 403 ــــــ على كل من النائب العام الاستئنافي او المالي ومن القاضي المنفرد الجزائي، كل ضمن حدود اختصاصه، عندما يبلغه خبر توقيف احد الاشخاص بصورة غير مشروعة ان يطلق سراحه بعد ان يتحقق من عدم مشروعية احتجازه… ”.
فمتى يكون الاحتجاز مشروعاً ؟
يكون الاحتجاز مشروعاً خلال فترة التحقيق الاولي الذي تتولاه الضابطة العدلية بإشراف النيابة العامة كما جاء اعلاه وذلك بأمر خطي معلل من النائب العام ما دام ملف التحقيق خلال تلك المدة لم يتم اختتامه ولمدة اقصاها اربعة ايام. فإذا اختتم التحقيق لا يعود هناك اي اساس قانوني لاستمرار الاحتجاز.
وتعطي المادة 107 أ.م.ج. السلطة لقاضي التحقيق في اصدار قرار توقيف بعد استجواب المدعى عليه
بشرط توافر الشروط التالية:
“ – بعد أن يستجوﹺب قاضي التحقيق المدعى عليه، ويستطلع رأي النيابة العامة، يمكنه أن يصدر قراراً بتوقيفه شرط أن يكون الجرم المسند إليه معاقباً عليه بالحبس اكثر من سنة أو أن يكون قد حكم عليه قبلاً بعقوبة جنائية او بالحبس أكثر من ثلاثة أشهر دون وقف التنفيذ.
– يجب ان يكون قرار التوقيف معللاً وان يبين فيه قاضي التحقيق الأسباب الواقعية والمادية التي اعتمدها لإصدار قراره على ان يكون التوقيف الاحتياطي الوسيلة الوحيدة للمحافظة على أدلة الإثبات أو المعالم المادية للجريمة أو للحيلولة دون ممارسة الإكراه على الشهود أو على المجني عليهم أو لمنع المدعى عليه من اجراء اتصال بشركائه في الجريمة أو المتدخلين فيها أو المحرضين عليها من او ان يكون الغرض من التوقيف حماية المدعى عليه نفسه او وضع حد لمفعول الجريمة أو الرغبة في اتقاء تجددها أو منع المدعى عليه من الفرار أو تجنيب النظام العام أي خلل ناجم عن الجريمة.
– يبلغ المدعى عليه كلاً من مذكرة الاحضار وقرار التوقيف، ولو كان موقوفاً بجريمة اخرى، عند تنفيذ اي منهما في حقه ويترك له صورة عن وثيقة تبليغه.
– إذا لم تراع الأصول المحددة آنفاً لمذكرة الإحضار وقرار التوقيف فيغرم الكاتب بمبلغ مليوني ليرة على الاكثر بقرار من المحكمة التي يدلي أمامها بالمخالفة.
– للمدعى عليه أن يستأنف القرار القاضي بتوقيفه خلال أربع وعشرين ساعة من تاريخ إبلاغه إياه.
– ان استئناف القرار لا يوقف تنفيذه.
– اذا كان المدعى عليه متوارياً عن الأنظار فلقاضي التحقيق أن يصدر في حقه قراراً معللاً بتوقيفه غيابياً”.(التسطير مضاف).
وليس هناك من مذكرة توقيف مستقلة عن قرار التوقيف او تحل محله. فإن المذكرة ما هي الا وثيقة تبليغ للجهات المعنية لتنفيذ قرار التوقيف. وعندما لا يكون هناك من قرار توقيف مستوف للشروط القانونية واهمها التعليل فلا يجوز ان تكون هناك من مذكرة وتعتبر المذكرة عملاً غير مشروع ويؤلف تنفيذها جناية الحرمان من الحرية وجناية الاعتداء عليها.
ثانياً: ما تم تطبيقه في حالة المعتقلين بملف انفجار 4 آب
في 25/1/2023 صدر عن النائب العام لدى محكمة التمييز قرار بإطلاق سراح الموقوفين كافة بقضية انفجار مرفأ بيروت بالاستناد الى حقوق الانسان التي يكرسها العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية في المادة 9 منه فقرتيها الاولى والثالثة.
وكان المذكورون قد تمّ احتجازهم تعسفاً دون قرارات توقيف
على الاطلاق. ولم يتم ابلاغهم اي قرار توقيف. ولا وجود لمثل هذه القرارات. وتقدم معظمهم او كلهم بطلبات اخلاء سبيل متعددة الى كل من قاضيي التحقيق العدليين اللذين تعاقبا على الملف فتم ردها دون ابلاغ المحتجزين قرارات الرد.
وعلى سبيل المثال، كما قال لي الزميل وكيل المحجوزة حريته تعسفاً السيد محمد المولى، فإن هذا الاخير تقدم بخمسة طلبات اخلاء سبيل، ثلاثة منها الى قاضي التحقيق العدلي الذي تم تعيينه اولاً ثم بطلبين الى قاضي التحقيق العدلي الذي تلاه، وقد تمّ رد كل تلك الطلبات دون تبليغه او تبليغ موكله قرارات الرد.
ومن الثابت ان ملف التحقيق العدلي فارغ تماماً بالنسبة للذين تم اطلاقهم ولا توجد ذرة دليل على ان لهم ضلعاً في فعل انفجار 4 آب، ولا ادعاء على اي منهم بهذا الفعل.
ثالثاً: ما تمّ تطبيقه في حالة المحامية جيهان ابو عيد
تم تحرير المحامية الاستاذة جيهان ابو عيد بقرار صدر عن القاضي المنفرد في زغرتا ـــــ اهدن في 19/12/2022 عملاً بالمادة 9 من الاعلان العالمي لحقوق الانسان التي تحظر اعتقال اي انسان او حجزه تعسفاً.
وكانت الاستاذة جيهان قد اختطفت من منزلها قبل بزوغ فجر يوم الاربعاء في 12/1/2022 بعد ان تم اقتحامه بطريق الكسر والخلع ونُقلت مكبلة الى مركز الشرطة القضائية في طرابلس. ولما تمسكت بحقوقها عملاً بالمادة 79 من قانون تنظيم مهنة المحاماة وبعد اقل من ساعتين تم اختتام التحقيق. وادخلت مكبلة الى نظارة قصر العدل بموجب امر خطي الى آمر تلك النظارة صادر عن محام عام استئنافي في طرابلس، لا علاقة له بالملف الذي اختتم التحقيق فيه، بإحتجازها في تلك النظارة لاجل غير مسمى. ثم ويوم الثلاثاء في 18/1/2022 قام احد قضاة التحقيق بإصدار مذكرة توقيف غيابية لها وذلك مع علمه الاكيد بوجود الاستاذة جيهان قيد الاحتجاز في النظارة، وبعد ان زارها فيها، متجاوزاً الشرطين: شرط قرار التوقيف المعلل وشرط ان يكون المطلوب توقيفه متوارياً عن الانظار. فتكون المحامية جيهان ضحية جنايتي الاعتداء على الحرية والحرمان منها في آن معاً.
ملاحظة أخيرة
كرّس القانون اصول المحاكمات المدنية في المادة 2 منه قاعدة تسلسل القواعد ومنها ان احكام المعاهدات الدولية، مثل الاعلان العالمي لحقوق الانسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، تتقدم في مجال التطبيق على احكام القانون اللبناني. كما نصت مقدمة الدستور على الالتزام بالاعلان العالمي لحقوق الانسان.
وبإحترام هذه القواعد كما والاحكام المنوه عنها لقانون العقوبات وقانون اصول المحاكمات الجزائية، وتطبيقها بكل امانة على كل من ينتهكها دون استثناء وكائناً من كان، فإنه يوضع حد لحالات الاعتقال التعسفي والاعتداء على الحرية التي لا بدّ انه تعرض لها عشرات الآلاف من اللبنانيين.