ملاحظات على تعليمات رئيس الوزراء ووزير الداخلية في شأن النيابة العامة في بعبدا

صدر حديثاً عن رئاسة مجلس الوزراء بتاريخ 22 شباط 2023 ما يشبه المطالعة القانونية او حتى القرار القضائي في كتاب وجهته الى وزير الداخلية والبلديات تحت عنوان:

”الموضوع: اجراء المقتضى القانوني والحفاظ على حسن سير العدالة “.

وذلك في شأن اعمال الملاحقة التي تقوم بها النيابة العامة الاستئنافية في بعبدا ضد بعض المصارف و/أو اصحابها و/أو مديريها بناء لاخبارات تلقتها فوصفت الرئاسة تلك الاعمال بأنها مخالفة للقانون ولا سيّما المواد 125 و399 و751 من قانون اصول المحاكمات المدنية (أ.م.م.).

وهذا هو ملخص المواد المذكورة:

م 125: على القاضي المطلوب رده ومنذ تبلغه طلب الرد ان يتوقف عن متابعة النظر في القضية الى ان يفصل في الطلب.

م 399: وتتعلق بأصول التبليغ الى المبلغ اليه.

م 751: وتتعلق بدور القاضي المنسوب اليه سبب دعوى مسؤولية الدولة. كأن يكون ارتكب الخطأ الجسيم موضوعها فلا يجوز له منذ تقديم استحضارها ان يقوم بأي عمل من اعمال وظيفته يتعلق بالمدعي.

وقد استندت رئاسة مجلس الوزراء في وصفها المذكور الى المزاعم التي تضمنها كتاب تلقته في اليوم السابق من شخص لم تسمه بصفته وكيلاً لاحد المصارف الذي لم تسمه وفيه ان النيابة العامة الاستئنافية في بعبدا تجري منذ شهر آذار 2022 تحقيقاً مع جميع مصارف لبنان بجرائم تنسبها اليها مجموعة اهلية ليست مودعة في اي من المصارف المذكورة، وانه سبق للمصرف المجهول الاسم ان تقدم امام محكمة الاستئناف المدنية في جبل لبنان بطلب رد النائب العام الاستئنافي في النيابة المذكورة وبدعوى مسؤولية الدولة عن اعماله فلم يتم تبليغ طلب الرد اليه رغم محاولات متكررة.

وجاء في الكتاب المذكور أن ” الرئيس الاول لمحكمة استئناف جبل لبنان “ (علماً بأنه لم يتم ابداً ملء هذا المنصب منذ شغر بقبول استقالة الرئيس الاول السابق !) اجرى اتصالاً هاتفياً بالنائب العام المذكور بناءً لطلب جمعية المصارف لابلاغه طلبات الرد ودعاوى المسؤولية فجوبه بالرفض لوجوب تبليغ الجهة المدعية أولاً ! وكل ما تقدم يستند الى مضمون عريضة المستدعي المجهول الاسم الذي طلب في خاتمتها اعتبار ان اي اشارة او قرار تتخذه النيابة المذكورة يشكل تجاوزاً لحد السلطة طالباً الى رئاسة مجلس الوزراء:

”اتخاذ تدابير تنفيذية لوقف تجاوز حد السلطة بالشكل الموصوف “.

كما جاء في كتاب الرئاسة ايضاً انها اطلعت على عريضة أخرى صادرة عن مصرف آخر لم يسمه بذات التاريخ اي 22/2/2023 يكرر فيها مرسلها ما جاء في الكتاب السابق ذكره وطالباً:

”الايعاز للضابطة العدلية بكافة فروعها بعدم تنفيذ القرارات الصادرة (عن النيابة العامة المذكورة) لانها تشكل تجاوزاً لحد السلطة“.

وخلصت رئاسة مجلس الوزراء في ختام حيثيات مطالعتها، او قرارها، الى الاستنتاج التالي:

”يتبين انه رغم تقديم دعوى مسؤولية بحق النائب العام لدى محكمة استئناف جبل لبنان فإن هذه الاخيرة ما زالت واضعة يدها على الملف وتتابع القيام بأعمال وظيفتها خلافاً لمنطوق المادة 751 المومأ اليها بل انها تمادت في تلك المخالفة بحيث تجاهلت جميع طلبات الرد كما وطلبات المداعاة المقامة بوجهها من فرقاء آخرين (لم يسميهم كتاب الرئاسة) ووضعت الجميع وفي طليعتهم الاجهزة الامنية بين خيارين اما المجاراة في مخالفة القانون ما يجعلها شريكة في المخالفة واما التخلف عن تنفيذ اشارات صادرة عن القضاء ويشكل ايضاً مخالفة قانونية ويعرضها للمسؤولية“.

وختم:

”وعليه
وفي ضوء كل ما تقدم وتأسيساً عليه
يطلب اليكم اتخاذ ما يلزم من تدابير واجراءات تجيزها القوانين والانظمة المرعية الاجراء في سبيل تطبيق احكام القانون والمنع من تجاوزه والمحافظة على حسن سير العدالة“.

فصدر عن وزير الداخلية والبلديات في اليوم ذاته اي 22 شباط 2023 كتاب عاجل جداً موجه الى كل من المديرية العامة لقوى الامن الداخلي والمديرية العامة للامن العام وقد ارفق معه ربطاً صورة عن كتاب رئاسة مجلس الوزراء ويعطي فيه الوزير الى المديريتين المذكورتين التعليمات التالية في صيغة الأمر:

”يطلب اليكم ضرورة التقيّد بمضمون ما جاء في كتاب دولة رئيس مجلس الوزراء وعدم تأمين المؤازرة او تنفيذ اي اشارة او قرار يصدر عن النائب العام الاستئنافي في جبل لبنان في اي ملف يثبت انه قد جرى تقديم طلب مداعاة الدولة بشأن المسؤولية العامة عن اعمال النائب العام الاستئنافي في جبل لبنان وذلك لحين بت المرجع القضائي بهذا الطلب“.

لم يصدر بعد اي رد فعل على الكتابين المذكورين من القوى الامنية المذكورة. لكنه صدر عن امانة سر مجلس القضاء الاعلى بيان مقتضب يدعو فيه الى استردادهما.

وانه لمن الملفت ان صيغة كل من الكتابين المذكورين تستعير من الصيغ التي نص عليها قانون اصول المحاكمات المدنية الذي يوجب اذا صدر عن محكمة قرار غير قابل لاي طريق من طرق المراجعة العادية وتحقق رئيس القلم من قابليته للتنفيذ فإن هذا الاخير يعطي صورة طبق الاصل صالحة للتنفيذ عنه بحيث يجوز تنفيذه عن طريق دائرة التنفيذ اذا تضمن الزامات على الاشخاص او الاموال.

يفيد ما تقدم ان رئاسة مجلس الوزراء قررت وقف النائب العام الاستئنافي في جبل لبنان عن العمل. أما وزير الداخلية والبلديات فإنه تولى مهام رئيس القلم فأعطى قرار الرئاسة القوة التنفيذية ودور رئيس دائرة التنفيذ بأن كلف مديرتين امنيتين تنفيذ قرار الرئاسة بحق النيابة العامة المذكورة ! اي ان رئاسة الوزراء ووزير الداخلية أحلا نفسيهما محل النظام القضائي بكامله بأن مارسا سوية سلطة قضائية و/أو سلطات، تعود حصراً وعملاً بقانون القضاء العدلي لوزير العدل بالاتفاق مع مجلس القضاء الاعلى وهيئة التفتيش القضائي، وذلك بناءً للعريضتين المنوه عنهما والصادرتين عن مجهولين يعبرون عن وجهة نظر بعض المصارف المجهولة، وكل ذلك مما يعاقب عليه القانون.

ليس ذلك فحسب بل ان وزير الداخلية والبلديات، ودون أي حق أو سلطة، فوّض سلطة قضائية الى كل من المديريتين الامنتيتين المذكورتين بالتثبت في اي ملف من انه قد جرى تقديم طلب مداعاة الدولة بشأن المسؤولية الناجمة عن اعمال النائب العام الاستئنافي في جبل لبنان.

وهل ان رئاسة الوزراء او وزارة العدل هي من دوائر المباشرين التي تتولى التبليغ ؟ وألا يعرف وزير الداخلية وهو قاض سابق ما يواجه المحامين عامة من صعوبة وحتى استحالة تبليغ النيابات العامة والقضاة وحتى الوزراء وهو منهم ؟

فبالرجوع الى الدستور يتبين انه يكرس في مقدمته مبدأ الفصل بين السلطات وهو ينيط في المادة 65 منه السلطة التنفيذية بمجلس الوزراء مجتمعاً. أما فيما خص الوزراء فإنه نص على الآتي:

”يتولى الوزراء ادارة لصالح الدولة ويناط بهم تطبيق الانظمة والقوانين كل بما يتعلق بالامور العائدة الى ادارته وما نص به “.

اما السلطة القضائية فتننيطها المادة 20 من الدستور حصراً بالمحاكم التي تصدر كل القرارات والاحكام بإسم الشعب اللبناني !

ويقيم قانون القضاء العدلي (م 22) لدى كل محكمة استئناف نيابة عامة برئاسة نائب عام وحددت مهامها المادة 24 وما يليها من قانون اصول المحاكمات الجزائية وفي طليعتها استقصاء الجرائم ولا تتخذ تحقيقاتها شكل الدعوى بل انها تقتصر على سلطة الادعاء امام، ولدى، وفي دائرة قاضي التحقيق المختص حيث ينشأ ملف تحقيق قد يحال الى الهيئة الاتهامية ومنها الى محكمة الجنايات اذا كانت هناك من جناية، او مباشرة امام القاضي المنفرد الجزائي، وفي الحالتين تنشأ دعوى جزائية.

انني من الذين يشكون كثيراً من تجاوز النيابات العامة لصلاحياتها القانونية ولا سيّما في شأن ما يقع بأمر منها من جرائم حجز الحرية او الحرمان منها. وأنا من ضحايا بعض تلك التجاوزات ومثّلت وأمثّل بصفتي محام بعضاً من الذين تم الاعتداء على حريتهم او حرمانهم منها فاحطت رئاسة الجمهورية ورئاسة مجلس الوزراء والنيابات العامة وقضاة الحكم وقضاة التحقيق ومجلس القضاء الاعلى والتفتيش القضائي بما حصل ويحصل في تلك الاعتداءات على الحرية دون ان القى من تلك المراجع اي تجاوب يشبه التجاوب الفائق السرعة من جانب رئاسة الوزراء ووزير الداخلية اللذين بادرا الى ” نجدة “ صاحبي العريضتين المجهولين الاسم وبالاستناد فحسب الى المزاعم التي وردت فيهما واللتين كان عليهما تقديمها الى المرجع القضائي الصالح. كما أن مضمون العريضتين اللتين تلقتهما رئاسة مجلس الوزراء واستجابت لهما بسرعة البرق. وكذلك فعل وزير الداخلية، يفيد ان تقديمهما حصل قبل اية ملاحقة تعرض لها الشاكون المجهولون وان هدفها ليس التظلم من عمل قامت به النيابة العامة الاستئنافية في بعبدا يخالف القانون بل منعها من القيام بوظيفتها كما يلزمها القانون.

وطالما ان الامر هو كما جاء وصفه في كتاب رئاسة مجلس الوزراء، مع انه كان لا بدّ لها من التعجب كيف ان المصارف اللبنانية ككل اودعت في مصرف لبنان ما يفوق المائة مليار دولار من ارصدة الودائع لديها من زبائنها بالدولار الامريكي والتي كانت مودعة في حسابات المصارف المذكورة لدى المصارف الامريكية، وانتقلت بالتالي منها الى حسابات المصرف المركزي بالدولار الامريكي في الولايات المتحدة الامريكية، لم تعد تظهر سواء في ميزانية مصرف لبنان في لبنان او في كشوفات حساباته المصرفية في الولايات المتحدة، فكيف ان احداً في لبنان او الولايات المتحدة لم تلفت نظره هذه العجيبة ولم يبدأ تحقيقاً او ملاحقة في شأن اختفاء تلك الاموال التي تخص المودعين وما انزله اختفاؤها من مصائب باللبنانيين ككل.

وفي بيان حديث لجمعية مصارف لبنان يحمل تاريخ 17/2/2023 فإن المصارف تعترف بأنها اودعت ودائع زبائنها بالدولار في مصرف لبنان الذي تتهمه بإستخدام هذه الاموال رغماً عن ارادتها، وتشكو من ان مصرف لبنان سعّر 1500 ليرة للدولار الواحد فيقوم بعض مديني المصارف بردّ ديونهم لها بالدولار الامريكي بالليرات اللبنانية بهذا السعر ! فيكون مصرف لبنان غريمها اولاً وأخراً.

لكن جمعية المصارف لا تقول ان المصارف الاعضاء فيها كانت تودع في المصرف المركزي اموال المودعين لديها بالدولار لقاء فوائد عالية تدفع بعضها للمودع وتحتفظ بالبعض الآخر على سبيل الربح في حين ان المادة 98 من قانون النقد والتسليف تمنع ان تنتج ودائع المصارف لدى المصرف المركزي اية فوائد.

وهي لا تقول كيف انها لم تلاحظ تناقص موجودات المصرف المركزي بالدولار التي يتألف معظمها من اموال المودعين المعاد ايداعها لديها ولم تحاول استرداد تلك الاموال قبل تبخرها بكاملها.

وهي لا تقول لماذا قبلت طوعاً بالتعامل بالدولار بسعر تحويل ال 1500 ليرة لبنانية الذي حدده المصرف المركزي دون ان تكون له تلك السلطة.

ألم ولا تستأهل تلك العجيبة اي تحقيق ؟

تذكرنا هذه الوقائع بمجلة الاحكام العدلية وما جاء فيها عن بعض احتمالات التعامل مع المسؤولين عن عجيبة اختفاء اموال المودعين وعن عدم التحقيق بها. وللبيان فإن مجلة الاحكام العدلية هي محاولة تقنين للشريعة الاسلامية على المذهب الحنفي صدرت في الدولة العثمانية على مراحل واكتملت في العام 1882 في عهد السلطان عبد المجيد. وهي ما تزال سارية المفعول في لبنان ما عدا ما يتناقض منها مع نصوص قانونية لاحقة.

ومن أحكامها الحجر ويعني منع انسان من التصرف. وهو تدبير توجبه الشريعة الاسلامية على كل من يصبح خطراً على نفسه وعلى الناس. ومنهم المعتوه وهو، وكما جاء في المادة 945 منها، الذي اختل شعوره بأن كان فهمه قليلاً وكلامه مختلطاً وتدبيره فاسداً. وأجازت المادة 964 من المجلة الحجر على المفسدين الذين يفسدون الاموال والابدان والاديان وخصت منهم:

”الطبيب الجاهل والمفتي الماجن والمكاري المفلس“.

وألحقت بهم المحتكرين الذي يبيعون الحوائج الضرورية بأعلى من قيمتها.

وهذا احتمال يؤلف غاية في اللطف.

اما الاحتمال الاخر، وهو الاصح، فيتألف من شقين، الشق الاول: هو متابعة tracking مصير اموال المودعين التي تقول المصارف انها كانت في حساباتها في المصارف الامريكية ونقلتها الى مصرف لبنان والذي نقلها مصرف لبنان زعماً الى حساباته في المصارف الامريكية، وما إذا كانت تلك العمليات حقيقية لا دفترية وكيف انها تبخرت. وهذا ممكن وقد عرضت مشروعاً مفصلاً بهذا المعنى على رئيس الجمهورية السابق العماد ميشال عون فإمتنع عن الاخذ به دون سبب. والشق الثاني فهو التحقيق الجزائي عن طريق النيابات العامة في لبنان وخارجه. فلا بدّ من تطبيق القانون على كل من يشتبه به من ادارات المصـــارف والمصرف المركزي والدولة وسواهم بالسطو على اموال المودعين.