مشاهد قضائية

المحامي 1933

قسم المقالات الحقوقية

مشاهد قضائية
بقلم المحامي فؤاد رزق

لا يسع الواقف على حوادث القضاء والمطلع على شؤونه ان يكتم حقيقة اثبتها الاختبار وهي ان التداعي امام القضاء اصبح بفضل قوانيننا الحالية معركة يفوز فيها الاقوياء .

ولا عجب اذا كتب الفوز للاقوياء في المعارك القضائية متى كان القانون حاميهم ونصيرهم فهم يظلمون ويعتدون ثم يلجأون الى القانون فيرون منه درعاً يقيهم الهجمات وحصناً منيعاً به يتحصنون .

والقوانين في هذا العصر أصبحت بعيدة عن المعقول والمألوف فهي مجموعة قواعد كثيراً ما تطغو فيها الصورة على الحقيقة والشكل على الجوهر . ومن مميزاتها كثرة عددها والابهام الموجود في الكثير منها وتناقضها مع غيرها من القوانين مما جعل اكثر القضاة بين جاهل لها أو متردّد في تفسيرها فنشأ عن ذلك فوضى قضائية هائلة كانت ضحاياها صغار المتقاضين الواقفون على أسرارها القادرون على حل مشاكلها وهكذا احتكرت القانون فئة صغيرة من الناس هي فئة رجال القانون المتضلعين منه وهم قوم قتل القانون في الكثير منهم الضمائر فباتوا لا يصغون لصوت الحق يستثمرون عملهم من وراء جهل الناس فيحللون ما لا يحل ويحرمون الحلال ويسيئون للعدل ولا يشعرون

والقضاة عبيد القانون وما اكثر المقيدين منهم بحروفه يظلمون وهم عارفون بذلك ومعترفون واذا ارادوا التنصل من تبعة ظلمهم قالوا اننا منفذون أحكام القانون . ولو خلوا بانفسهم وحكموا ضمائرهم لفهموا غاية القانون ولما اتخذوا منه وسيلة للظلم لان القانون خلق للناس وما خلق الناس للقانون .

وشرّ البلية ان لا يهتدي القضاة الى نص يستندون اليه في احكامهم فهنالك تتضارب الاراء وتختلف الاجتهادات. هذا يفتش في القوانين الاجنبية وذاك في اجتهادات المحاكم وآخر يرجع الى آراء المؤلفين وهمهم جمعياً ايجاد النظريات التي لم يسبقهم اليها امثالهم وما كانت جهود الكثيرين منهم في ايجاد النظريات تبذل حباً بالعدل فان هي الا للتفاخر بالاستنباط والتباهي بالابتكار

والظلم تقويّه العادة . فالقاضي الذي يتكيء في ظلمه على القانون ويتذرع بحرفياته لاضاعة حقوق الناس تفقده العادة مزيّة الشعور بالعدل فيصبح وهو على منصة القضاء آلة تصدر الاحكام بدون تروّ ولا تدقيق ولو كانت نتيجتهاالاعدام (1) وهو يفاخر بمقدرته على الانجاز وبين التسرع والمقدرة على الانجاز بون عظيم .

  وكم من قضاة تخالهم وهم على منصة القضاء يسمعون ويفهمون وما هم الا انصاب لا يعون . واذا سألت عن سبب توليهم القضاء قالوا هي الطائفية وقد قضت اوضاعنا الشاذة برعايتها حتى في القضاء فهذا يجلس على كرسيه لانه ينتمي لطائفة وذلك لانه ينتمي لغيرها دون ما نظر الى مقدرة او استحقاق . مع ان كراسي القضاء قد انشئت للعدل لا لتمثيل الطوائف والاديان

ومن افظع خطيئات القضاة ما نراه من عدم المساواة بين المتداعين في مجالس القضاء فإذا مثل امامهم الخصمان قرّبوا القوى اليهم باشّين واشاحوا عن الضعيف مستصغرين وربّ حجة في فم الضعيف يخنقها احتقارهم وهي اقوى دعامة للحق

والعدل اصبح سلعة تشرى ولكنها بفضل ما يبتدعون من الرسوم غالية الثمن فلا يقدم على شرائها سوى الاغنياء اما الفقير فابواب العدل موصدة في وجهه فبات يفضّل ضياع حقه مرة واحدة على ضياعه مرتين

واذا سألت عن سبب هذه الرسوم المتنوعة الاشكال اجابوا أنها خير وسيلة لمنع الدعاوى الكاذبة وما كانت الدعاوى الكاذبة البدعة المخصوصة بالفقراء دون الاغنياء ولا كانت زيادة الرسوم لتمنع الدعاوى على غير الفقراء المعدمين

…….

مهلاً ايها القضاة لا ترشقوني بسهام غضبكم فما انا من يبخسكم حقكم وينقصكم قدركم

بينكم رجال العلم والذكاء والأخلاق العالية

وبينكم من هم مفاخر للقضاء يستنار بآرائهم الصائبة ومعارفهم الواسعة وفي نزاهتهم وسلامة وجدانهم اعظم ضمانة للحقوق

ولكن هي الانظمة القضائية تفسد على الكثيرين منكم مزاياهم الطيبة . وهذه الانظمة هي ما انتقد لا انتم

…….

وانتم ايها المشترعون اتقوا الله في هذه الشرائع التي تضعونها وراعوا حالة المحيط الذي تطبقونها عليه فلكل تربة غرس يصلح لها

عدلوا القوانين القديمة التي تقيد القضاة وتقتل ضمائرهم

احذفوا من القوانين تلك القواعد الشكلية والنصوص المعقدة التي يحتكرها ويستغلها المتضلعون من القوانين

لتكن القوانين مما يقبله العقل ويفهمه حتى بسطاء الناس بالبداهة فلا يضلون سواء السبيل

اجعلوا ابواب العدل مفتوحة على المصراعين بوجه المظلومين من الفقراء المساكين فهم احق الناس بالعدل

صونوا القضاء من كل التأثيرات . وحافظوا على حرية القضاة فاستقلال القضاء الدعامة الاولى لاستقلال البلاد

ــــــــــــ

(1) ومثال حكم الاعدام ليس مثالاً وهمياً فكثير هي احكام الاعدام التي ظهرت بعد صدورها براءة المحكوم عليهم ويمكنني بهذه المناسبة ان اشير الى حادثة يوسف الكردي الذي حكم عليه بالاعدام ثم ظهرت براءته    ( راجع تفاصيل هذه الحادثة في مجلة المحامي في الصفحة 93 من العدد الرابع من السنة الاولى )