الاذعان للقانون الامريكي ليس خياراً

نشرت الجريدة الرسمية في عددها الصادر في 12/5/2016 القرار رقم 12253 الصادر في 3 أيار 2016 عن حاكم مصرف لبنان بتحديد أصول تطبيق القانون الفدرالي الصادر عن حكومة الولايات المتحدة الامريكية في 18/12/2015 والمتعلق بتعامل حزب الله والأشخاص الذين يدخلون في تعريفه مع المؤسسات المالية غير الامريكية ومنها المصارف اللبنانية.

فأوجب القرار المذكور على المصارف اللبنانية تنفيذ عملياتها بما يتناسب مع مضمون القانون الامريكي المذكور والانظمة الصادرة أو سوف تصدر عن السلطة التنفيذية في الحكومة الامريكية تطبيقاً له (وهي التي تعرف بمصطلح regulations). كما أوجب على هذه المصارف ابلاغ هيئة التحقيق الخاصة في مصرف لبنان فوراً بالاجراءات والتدابير التي قد تتخذها ضد أي شخص تنفيذاً للقانون الامريكي المنوه عنه وأنظمته التطبيقية مع توضيح اسباب اتخاذ تلك الاجراءات والتدابير.

وبرر حاكم مصرف لبنان قراره المذكور في مقدمته بأنه أصدره لتفادي “الاجراءات التعسفية” و“حفاظاً على المصلحة الوطنية العليا”.
وقد بادرت جمعية المصارف الى الترحيب بالقرار المذكور وتأييد تطبيقه خشية من التعرض للاجراءات التعسفية التي إستند اليها حاكم مصرف لبنان جهاراً فيما قرره ومن إخراجها قسراً من “ النظام المالي العالمي”. وبدورها فإن الجهات المتعاطفة مع حزب الله بادرت الى التنديد بقرار حاكم مصرف لبنان.

لكن المؤيدين لقرار حاكم مصرف لبنان وكذلك المعارضين له لم يستعملوا أية حجج قانونية في ما طرحوه. فما هو الوضع القانوني لهذه المسألة الخطيرة ؟ وما هو القانون الصالح للتطبيق عليها ؟

أولاً

إن المسألة لا تعني فقط مصرف لبنان والمصارف اللبنانية بل تتعلق بحقوق زبائن المصارف والمتعاملين معها في لبنان من أشخاص لبنانيين وغير لبنانيين سواء من الافراد أو من الشركات ومن سائر الاشخاص المعنويين. وكل هذه الحقوق محمية بالقانون اللبناني وتخضع له وحده على الاراضي اللبنانية كما تخضع المطالبة بها لولاية المحاكم اللبنانية.

ثانياً

لا ولاية أبداً للقانون الامريكي خارج الاراضي الامريكية. وإذا شاءت الحكومة الامريكية تطبيق قوانينها في لبنان على اللبنانيين والمقيمين في لبنان، سواء كانوا من الاشخاص الطبيعيين أو المعنويين، فإن ذلك يؤلف إعتداءً على الحقوق والاوضاع المشروعة للدولة اللبنانية واللبنانيين، ومنها الحقوق التي يحميها الاعلان العالمي لحقوق الانسان وملاحقه، الامر الذي يحظره القانون الدولي ويجيز مراجعة محكمة العدل الدولية (وهي إحدى أركان منظمة الامم المتحدة) ضده في وجه الدولة الامريكية.

ثالثاً

ولا ولاية أبداً لحاكم مصرف لبنان بموجب قانون النقد والتسليف في إصدار القرار رقم 12253، فيكون القرار المذكور غير موجود inexistant وكأنه لم يكن وهو والعدم سواء. وإذا إتخذ أي من المصارف اللبنانية اجراءات ضد بعض زبائنها بالاستناد اليه فإن ذلك لن يفيده في شيء ولن يحول دون تطبيق القانون اللبناني عليه إذا تظلم المتضرر من مثل هذه الاجراءات امام المحكمة اللبنانية الصالحة.

رابعاً

يلاحظ أن المصارف اللبنانية، بقيادة مصرف لبنان، تتطوع، عملاً بنظرية “مكرهٌ أخاك لا بطل”، لوضع نفسها في خدمة الحكومة الامريكية منذ بدء تطبيق القانون الفدرالي الامريكي الذي يحمل إسم فاتكا. فهي تتجسس، نعم تتجسس، على زبائنها لمعرفة ما إذا كانت لهم أية صلات بالولايات المتحدة أو بشركات أو أشخاص مقيمين فيها، وتضغط عليهم ليوقعوا إما طوعاً أو تحت التهديد بإقفال حساباتهم على نماذج تصاريح ضرائبية أمريكية صادرة عن مصلحة الواردات الداخلية الامريكية IRS ومعدة للتقديم الى المصلحة المذكورة. وهي في كل ذلك تهين زبائنها وتنتهك حقوقهم القانونية والانسانية وتنتهك القانون اللبناني بزعم أنها قد تتعرض لإجراءات إنتقامية امريكية. ذلك أنها أذعنت للمطالب الامريكية في أن تتسجل في أمريكا لدى مصلحة الواردات الداخلية الامريكية IRSوأن تلتزم بإعطائها معلومات عن زبائنها في لبنان (وقد أصبح معظم المصارف اللبنانية مسجلاً على النحو المذكور). لكن إذعانها للقانون الفدرالي الامريكي في أمريكا لا يفيدها في لبنان ولا يعطيها دفاعاً في وجه أية دعوى قد تقدم ضدها في لبنان بموجب القانون اللبناني. وفي حال التنازع في لبنان بين القانونين الامريكي واللبناني، فإن القانون اللبناني هو وحده الذي يطبق دون سواه. وإن الحل يكمن في رجوع المصارف اللبنانية التي سجلت نفسها في الولايات المتحدة بموجب نظام فاتكا الى جادة الصواب والانسحاب من التسجيل الذي أجرته جنباً الى جنب مع توجيه إنذار قانوني من الحكومة اللبنانية الى الحكومة الامريكية يفيد بأنها تنوي الاحتكام الى القانون الدولي والتقدم بدعوى أمام محكمة العدل الدولية ضد تعريضها المصالح اللبنانية لأي أذى أو التهديد الصريح أو المبطن بإنزال مثل هذا الاذى، وكل ذلك بالتزامن مع إقلاع حاكم مصرف لبنان عن التدخل في شؤون لا يعطيه القانون ولاية عليها.
وأخيراً

فإن التهديد الامريكي بفرض ضريبة قدرها 30 % على التحويلات بالدولار الامريكي من لبنان وإليه التي تجريها مصارف غير مسجلة بموجب أنظمة فاتكا ليس عملاً مشروعاً بموجب القانون الدولي بل هو فعل التهديد غير المشروع بمصادرة expropriation لا يجيزه القانون الدولي ولا حتى القانون الامريكي العادي. وإن القانونين اللبناني والدولي هما وحدهما، كل في نطاق ولايته، اللذان يوفران وسائل الحماية اللازمة لكرامة لبنان واللبنانيين وحقوقهم القانونية والانسانية. وإن الخيار الوحيد المتاح هو التمسك بهما لأن الاذعان الطوعي، أو حتى القسري خشية الاذى، للقوانين التي صدرت أو قد تصدر عن الكونغرس الامريكي الذي لا ولاية له داخل الاراضي اللبنانية، أو على المصالح اللبنانية عموماً خارج الاراضي الامريكية، ليس خياراً.