للمحـــَــامي الدكتور منير رشيد العيد
حصل ذلك في باريس، عندما وقفت أمام المحكمة لأقول لرئيسها «أؤكد لكم، كوني محام تحت القسم، أن موكلي رجل صادق ودقيق في محاسبته، والمبلغ الذي أطالب به مستحق له بالفعل ». إلتفت القاضي الى وكيل الخصم، وملامح الشخصية والثقة بالنفس ظاهرة على محيــَّـاه ليسأله عن رأيه بموكله. لم يتوانَ هذا الأخير عن الإجابة قائلا، وبصوت ثابت واثق: «حضرة الرئيس، لم أكن أعرف موكلي قبل أن تأتني به إحدى معارفي منذ حوالي أسبوعين، ليكلفني بهذا الملف. فلا أعرف عنه شيئا سوى هذه القضــية التي درستها وإياه »
دُهشت، ذُهــلتُ، بل صُعقتُ بهذا الجواب. لم أكن أتوقع هذا النبل وسموّ هذه الأخلاق. أُعجبت بصراحة هذا المحامي وصدقه وإحترامه لنفسه أولا، ثمّ لموكله. تساءلت، هل لو كان هذا غير فرنسي، هل كان أعطى ذات الجواب؟ لا يمكن الجزم أن جميع الفرنسيين بصدق هذا المحامي، بل غالبيتهم. أين نحن في لبنان من هذا الصدق؟ خرجت من المحكمة مفكرا أتساءل، فحضرتني المقولة أن:
عـَـلَى المـُحــَــامـِي قـَوْلُ الحَقِيقـَـة وعـَلىَ القَضــَـاء قَـوْلُ الـحــَـقّ
A l’avocat de dire la Vérité, A la Justice de dire le droit
عـَـلَى المـُحــَــامـِي قـَوْلُ الحَقِيقـَـة، أجـــل، فللحقيقة علينا حــــقّ.
هي واجب علينا، واجب دينيّ وأخلاقي وقانونيّ في آن معــًا. إوصت بها الأديان السماوية على إختلاف مذاهبها. فالحقيقة والصدق صنوان لا يفترقان. فمن يبتعد عنهما يبتعد عن إحترامه لنفسه قبل أن يتجاهل إحترامه لموكله وللقضاء وللحق وللضمير. الحقيقة هي الواقع، واقع الحال، تستند في القضاء وعند المحامي، الى الإثبات ما أمكن.
فالحقيقة من حيث القانون، واجب يرتكز على مبدئين إثنين ورثناهما عن القانون الروماني ومعمول بهما في معظم القوانين المعاصرة. المبدأ الأول أنه «لا يُجبر أحد على إثارة حماقته» المعروف باللاتينيةNemo auditur propriam turpitudinem allegans، أو بالفرنسية Nul n’est tenu d’invoquer sa propre turpitude، بمعنى أنه لا يُجبر من يُخطىء على الإعتراف بخطئه. عليه أن يسرد الوقائع لمحاميه، الوقائع كما هي، بما في ذلك حماقته والأغلاط التي إرتكبها. وعلى وكيله المحامي أن يسرد الوقائع دون تحوير أو قلب الألوان من أسود الى أبيض، إنما له، بل عليه، أن يتوقف عند وقوع الحماقة ويُحفيها عن المحكمة كونه ملزم بسر المهنة ومولج بالدفاع عن موكله عملا باليمين التي أقسمها قبل أن يُصبح محاميًا. عمل المحامي هنا شبيه بعمل رسام التعليق (caricaturiste) الذي يُظهر ما يُريد إظهاره ويُعظم شأنه، ويسكت أو يُقلل من شأن ما يُريد إخفاءه. فأين الكذب هنا طالما إكتفى بعدم إظهار حماقة موكله دون أن يُحوّر الحقيقة بالكذب والهراء. وهنا نأتي الى المبدأ الثاني أن «البينة على من يدّعي الواقعة»، باللاتينية Actori incombit probatio, reus in excipiendo fit actor. فعلى من يُطالب بدَين له بذمة شخص آخر أن يُثبت وجود وأحقية هذا الدَين، وعلى من يتهم، أن يُثبت أقواله وإدعاءآته، وفقـًا، بالطبع لمبدأ ضرورة قول الحقيقة. فأين الكذب في هذا التصرف؟
أما المحاماة، فكما عرفها القاضي والفيلسوف الفرنسي جان فرنسوا داغسو (1)، «هي صناعة قديمة كالقضاء، شريفة كالفضيلة، لازمة كالعدالة، ولا توجد مهنة أكثر منها جمالا ولا أحق منها بالإنشغاف.هي المهنة التي يمكن أن تجعل صاحبها نبيلا ولو كان من أصل وضيع، وأن تجعله غنيا دون وفرة المال والسحت، وأن تجعله كبيرًا دون الجاه الفارغ، وسعيدا دون الثروة المادية. أنها العمل الذي يلتقي فيه النبوغ والتفوق والجاه مع الثروة الأدبية… ». فالمحامي نبيل بمهنته، كلما إحترمها وإحترم آدابها ومناقبيتها، كلما كبـــُــرَ وزاد غناه بالشرف والسموّ. ما سمعت خطيبًا في المحاماة إلا وردد هذه المعاني وركــَّـز على مبادئها قبل أن يُثني عليه الجمهور بالتأييد والتصفيق. فكيف يمكن للمحامي بعد ذلك أن يتجاهل مبدأ قول الحقيقة؟ هل يمكن للخطيب بعد هذا التصفيق والتأييد أن يُغير الألوان ويبتعد عن قول الحقيقة، حتى لا نستعمل عبارة أخرى، ويتجاهل آداب المهنة ونبلها ومناقبيتها، وما ف=قال فيها داغسو، ليدنس شرفها جارفا معه سمعة المحامي؟
هذه المحاماة، علـــم ونبل شيم سامية. ولسموّ الأخلاق والإخلاص وقول الحقيقة مرتبة رفيعة في رأسمال المحامي الى جانب العلم وسعة الإطلاع الحــقّ.
على القضاء قول الحقّ،
أجل، هذه مُسلـَّمــة لا مندوحة منها، هذه هي رسالة القاضي.
القضاء والمحاماة صنوان من حيث العلم والأخلاق وعمق المعرفة وكل ما قاله داغسو. فإذا كان على المحامي قول الحقيقة المناسية للدفاع عن موكله، فعلى القضاء قول الحـقّ إحتراما لنفسه وإثباتا لإستقلاليته.بقوله الحق، يُعبر القاضي عن إستقلال الوطن وإستقلال السلطة القضائية. لندع جانبا الإنتقادات التي توجــَّه الى القضاء، حيث معظم القضاة مما يُقال براء، لنذكر ما قاله رئيس مجلس القضاء الأعلى، الدكتور غالب غانم خلال زيارته لقصر العدل في بعبدا بتاريخ ٨ شباط ٢٠١٠، الذي أطلق آلية النقد الذاتي الذي لا يستقيم إصلاح بدونه. فالقضاء عنفوان الإستقلال، إستقلال الوطن وستقلال القاضي. «هل نذكركم»، قال الدكتور غانم أمام القضاة، «هل نذكركم بعد بالإستقلال وأنتم دعاته؟ أم بالمسؤولية وأنتم قلبها؟ أم بالشفافية وهي أرقى غلالة تلف الحياة القضائية فيشع عطرها وتشع شمسها؟ أم بالعطاء، وهو ليس في مهنتنا الرسولية شعارا خاويا »، ثم حــثّ الدكتور غانم على خلق فجر جديد يعود فيه القضاء مشتكــىً، لا موضع شكــــــوى.
نعم على القاضي قول الحق ليكون القضاء مشتكــىً، لا موضع شكــــــوى.
ولكن أي حق وأي عدل ينطق به القاضي وهو إبن البشر؟ نـُـسلم ونؤمن بأن الحق المطلق والعدل العادل الرؤوف هو عدل الباري تعالى الذي وحده يعرف بخفايا الأمور وواقع النوايا. هو الحق الذي يفترض وقوف من ينطق به على كافة المعلومات المؤدية اليه. فمن واجب القاضي أن يغوص بالدرس والتمحيص يسمو ضميره ووجدانه وعلمه ليصل بقراره الى الحق العادل، الحق القضائي. من حيث المبدأ، يتحتم أن يتطابق الحقان، الحق القضائي والحق المطلق مع بعضهما، ولكن من أين للقاضي، إبن البشر، أن يقف على خفايا الأمور ويعلم حقيقة نوابا المتقاضين، مثلما تفعله وتعلمه العدالة السماوية. ضف الى ذلك ضرورة إلتزامه بنص المادة ١٤١ من قانون أصول المحاكمات المدنية التي تمنع عليه الحكم في الدعوى بناء على معلوماته الشخصية، بل بل وفقا للأوراق والمستندات المضمومة الى ملف القضية. بمعنى آخر، حتى ولو كان لدى القاضي إية معلومات شخصية عن الخلاف والقضية المعروضة أمامه، دون أن يأتي الملف على ذكرها، أو لم تُثيت فيه، فلا يمكنه أن يستند اليها ليُصدر قراره. ويُعتبر الحكم النهائي المبرم حقيقة حقـــَّــة ويكتسب قوة القضية المحكوم بها، بمعنى أنه لا يجوز للفرقاء العودة الى المحكمة بذات الصفة ولذات الموضوع لتبحث به من جديد. لذلك قد تختلف الحقيقة القضائية عن الحقيقة المطلقة. هذا في المسائل والخلافات المدنية. يختلف الأمر في المواد الجزائية إذ للقاضي سلطة تقدير تسمح له يتقدير الأدلة المرفوعة اليه في سبيل ترسيخ قناعته الشخصية (المادة ١٧٩ من قانون أصول المحاكمات الجزائية).
قول الحقيقة والنطق بالحق أمران يؤديان الى تحرير الضمير. فاللازمــة والشرط الأساس أن يكون هناك ضمير. فمن عرف الحق حرره، وقد جاء على لسان السيد المسيح قوله «تعرفون الحقّ، والحق الحق يُحرركم» (2). وجاءت أولى وصاية الحكمة الشريفة لتصر وتوصي بصدق اللســــان.
يبقى من المحتم إذا، أنه «عـَـلَى المـُحــَــامـِي قـَوْلُ الحَقِيقـَـة وعـَلىَ القَضــَـاء قَـوْلُ الـحــَـقّ».
لعــلَّ في تعميم وترداد هذه المقولة وسيلة للإصلاح، أو محاولة إصلاح من يبتعد عنها، وبالتالي إصلاح مجتمعنا.
لن نيأس، ولــن نتوانى…
فإذا كان الفالج لا يُعالج، نقول بصوت عــال، «فالج، نعم … ولكننا سنعالج، كل من موقعه، حتى ولو طال الزمن وإنتظرنا عقودا وأجيال.
علينا أن نحافظ على سمعة مهنة شريفة، حدَّهــا وسموها الشرف بالذات. علينا أن نبني وطنــنـا، هذا الوطن الفريد بخصائصه وتنوعه البشري والجعرافيّ، هذا «الوطـــــن الرسالة».
بناء الوطن يبدأ من بناء المواطن، ومن رميه قصاصة ورق في الشارع.
والمواطن فيما خص العدالة، جناحيهــا، القضاء والمحاماة. فإذا قال المحامي الحقيقة، ونطق القضاء بالحق، وضعنا حجـــر الأساس والمدماك المتين الراسخ في صرح الإستقلال والحرية وعزَّة الوطن وكرامة المواطن.
لبناننا هذا … لبناننا لنا… لنا فيه وبقدراته ملئ الثقة.
)مقال نشر في صحيفة النهار ٢٦/ ٤/ ٢٠١٠ (