الخطاب الطائفي يغطي إنتهاك القانون ويحمي الفساد

ظهرت ردود فعل سياسية قوية، ذات ألوان طائفية، على أعمال وزير المالية الأخيرة التي تناولت بعض الموظفين في وزارته. ورفع الطائفيون شعار أن ‘‘حقوق المسيحيين’’ قد هُدرت. وهذا التوصيف الطائفي مستنكر في المبدأ ومرفوض. فلو تناولت أعمال الوزير ‘‘حقوق المسلمين’’ فهل تصبح صحيحة ولو كانت تنتهك القانون؟

ذلك ان هذه الحملة الطائفية اللون صبت في مصلحة وزير المالية لأنها، وبكل أسف، تغطي المسألة الحقيقية وهي أن هذا الوزير، مثله مثل وزراء كثيرين معاصرين له أو سبقوه، ولا سيّما في تولي وزارة المال، يستحق أن يؤاخذ إلى حدّ المطالبة بإستقالته، لأسباب أخرى صحيحة وجدية وغير مصبوغة باللون الطائفي، وذلك بالأحتكام إلى القانون الذي يسري على كل اللبنانيين بالسواء.

فإن الوزير إنتهك القانون في بعض ما قام به من أعمال في إطار وظيفته، ولا سيّما في مسألة المناقلات، على الوجه الآتي:

(1) فهو أصدر قراراً بتكليف مدير المديرية الإدارية في مديرية المالية العامة بوظيفة غير وظيفته، واحل محله بالتكليف أحد مرؤوسيه الذي يشغل وظيفة أدنى عن طريق التكليف ( وكلاهما من المسيحيين)، مع ان المدير هو موظف من الفئة الثانية مشهود له بالكفاءة وإحترام القانون وهو معيّن بمرسوم ولا يجيز القانون نقله إلا بمرسوم. وان تكليفه بوظيفة أخرى لا ينقله من وظيفته الأصلية ولا يجوز أن يُكلف سواه بها في وجوده. وقد تقدم المدير بمراجعة أمام مجلس شورى الدولة لوقف تنفيذ القرار المذكور توصلاً إلى إعلان إنعدامه وإلا بطلانه إستناداً إلى القانون لا إلى الطائفية. وهذا المدير لا يزال قانوناً يتولى المديرية الإدارية في مديرية المالية العامة وكل عمل يصدر عن الشخص الذي أحلّه الوزير محله بالتكليف هو معدوم الوجود وباطل.

(2) وفي ذات الوقت فإن وزير المالية أصدر ‘‘مذكرة’’ بنقل موظفين من الفئة الثالثة من وظائفهم إلى وظائف أخرى دون إعطاء أي تبرير مقبول ودون موافقة مجلس الخدمة المدنية المسبقة كما يوجب القانون. فكأن مجلس الخدمة المدنية، الذي ترأسه سيدة نقلت إليه من مجلس شورى الدولة حسب الأصول، خيال في صحراء.

(3) وضمن ذات المذكرة فإن الوزير كلّف سيدة من رؤساء الدوائر بوظيفة رئيس مصلحة وهي وظيفة من الفئة الثانية لا يجيز القانون تعيين أحد فيها، سواء بالأصالة أو الوكالة، إلا بموجب مرسوم وبعد التثبت من توافر الشروط التي يوجبها القانون بواسطة مجلس الخدمة المدنية.

وهو كثيراً ما قام بمثل هذه المخالفات، وعلى سبيل المثال لا الحصر، فإنه كلّف أحد أمناء السجل العقاري المعاونين، وهو من الفئة الثالثة، بوظيفة أمين السجل العقاري المركزي في بيروت، وهي من الفئة الثانية مما يتطلب مرسوماً. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن وزير المالية يصرّ منذ توليه الوزارة على المحافظة على بدعة ان أحد موظفي الفئة الثالثة في مديرية الخزينة يوقع المعاملات المالية بمبالغ كبيرة بصفته‘‘ أمين صندوق الخزينة المركزي’’، في حين أن لا وجود لهذه الوظيفة المزعومة في ملاك الوزارة أي أنها وظيفة وهمية. لكنه تمّ إعطاء إسم الشخص الذي يتولاها زعماً إلى مصرف لبنان لقبول توقيعه على الشكات وتظهيرها منه بهذه الصفة المعدومة الوجود مع أن كل ما يقوم به منتحل هذه الصفة معدوم الوجود قانوناً ويعرض الدولة اللبنانية للمسؤولية عنه تجاه من يتضرر من أعماله.

وتعبّر أعمال وزير المالية بقوّة عن، وتشكل مثالاً على، ثلاثة مشاكل جوهرية تضرب الدولة اللبنانية في الصميم وتهدد بزوالها نهائياً، سواء بوجود أو عدم وجود رئيس للجمهورية، وانني أعرض لها على سبيل المثال لا الحصر لأن هناك مشاكل سواها تكاد لا تعد ولا تحصى، وهي:

(1)عدم إطاعة القانون الذي وحده يحمي الحقوق ويحفظها لأصحابها. فإن القائمين بشؤون الدولة، من أعلى الهرم إلى أسفله، يخرقون القانون بإستمرار دون خشية العواقب ودون أن يتعرضوا للمؤاخذة أو للمحاسبة أو للعقاب. وعندما يتم لفت نظرهم إلى ما يقومون به من مخالفة القانون فإنهم يزدادون إصراراً. وهنا لا بدّ من التنويه بسابقة نادرة تتمثل في رجوع مديرية الأمن العام عن خطأ التدبير الذي إتخذته بإلغاء جوازات السفر الصالحة دون ان يوليها القانون هذه السلطة. ولا شك أن الرجوع عن الخطأ فضيلة وأتمنى أن تصبح هذه السابقة الإيجابية مثلاً يحتذي به سائر القائمين بشؤون الدولة من وزراء ومدراء وسائر الموظفين كباراً أو صغاراً.

(2)عدم إلتزام حدود السلطة. فإن السلطة التي يعطيها القانون لوزير أو لموظف على سائر الناس هي تفويض خاص له مضمون معيّن وحدود مرسومة. وعلى من يتولى هذه السلطة التقيّد بكل دقة بحدود التفويض الذي يعطيه له القانون. وعندما يمارس وزير أو موظف سلطة لا تعود له قانوناً فإنه يصبح مغتصباً لها ويعاقب جزائياً على إغتصابه كما يعاقب على إساءة إستعمال سلطة أضراراً بالناس أو لجلب النفع لهم أو لنفسه.

(3)إعتبار هذه السلطة، المعطاة في المبدأ لوزير أو موظف بشخصه وإستناداً إلى توافر شروط الكفاءة والأهلية فيه، من أجل القيام بخدمة عامة بإسم الشعب اللبناني ومن أجل منفعة جمهور اللبنانيين، ملكاً خاصاً لمن يتولى الوزارة أو الوظيفة. وذلك، وفي كثير من الأحيان، لا لحسابه بل لحساب أو لمنفعة السياسي الكبير النافذ الذي سمَاه. فإذا ظهر منه أقلّ عصيان أو عدم إمتثال فإنه يتعرض للجزاء الشديد وسرعان ما يفقد حظوته ويعزل من منصبه.

وبالطبع فإن في جوهر هذه المشاكل ظاهرة إنعدام الإخلاق.

وإن معالجة هذه المشاكل، التي لا علاقة لها بالطائفية لأنها جوهرية وأساسية ويكتوي بنارها كل اللبنانيين دون تمييز، لا يكون بالخطاب الطائفي بل بالحرص على إطاعة القانون وعدم تجاوز حدود السلطة وعدم إغتصابها ومنع استزلام الوزراء والموظفين لكبار السياسيين النافذين.

ومن وقت لآخر، لا بدّ أن تتم ملاحقة جزائية لسياسي كبير نافذ أو لوزير وان يتم إنزال العقوبة المناسبة به فيكون في ذلك رادع وموعظة حسنة لسائر السياسيين والوزراء. وهذا هو السبب في أن كبار السياسيين النافذين حريصون على إبقاء النظام القضائي ضعيفاً وعاجزاً، ومن ذلك عدم تعيين نائب عام يجرؤ على ملاحقتهم أو قاضي تحقيق يجسر على التحقيق معهم والظن بهم أو قضاة حكم لا يخشون إصدار الأحكام عليهم.