الضمانات القضائية اولى من التشكيلات القضائية

 

كثر الحديث عن تأخر اصدار التشكيلات القضائية التي قررها مجلس القضاء الاعلى وردها وزير العدل لأسباب منها أنها جزئية . وصدر عن مجلس نقابة المحامين قرار مؤيد في المبدأ لموقف الوزير .

 

إلا أن كل الأطراف المعنية بهذا الموضوع غفلت عن بيت القصيد وهو: هل من المهم ان تجري التشكيلات القضائية ، ولا بد تحت ذات التأثيرات السائدة منذ اوائل التسعينات ، ام ان الاهم ان يوجد القضاة الصالحون لتولي القضاء بين الناس بالنزاهة واحترام حكم القانون وحقوق الانسان لايصالهم بسلام إلى العدالة بالسرعة الواجبة ؟

 

وللجواب على هذا السؤال علينا ان نمسك الخيط من اوله أي ان ننطلق من احكام الدستور .

نصت المادة 20 من الدستور اللبناني على ان السلطة القضائية تتولاها ، اي تمارسها ، المحاكم ضمن نظام قانوني يحفظ للقضاة وللمتقاضين الضمانات اللازمة ، التي عرفتها في فقرتها الثانية بعبارة : ’’ الضمانات القضائية ‘‘ .

 

اذن فإن من يتولى القضاء يحصل حكما” على التفويض المنصوص عنه في المادة 20 من الدستور ، وهو ممارسة السلطة القضائية باصدار الاحكام والقرارات التي يشترط الدستور صدورها باسم الشعب اللبناني  وحده . إلا أن هذا التفويض يقترن بالضمانة القضائية الواجبة لكل من القضاة والمتقاضين.

 

تشكيلات أم تعيينات ؟

 

ان ما يسمى’’التشكيلات القضائية‘‘ هو في الواقع  تعيين قضاة في مراكز غير تلك التي يشغلونها. وغالبا” ما تتضمن نقل القاضي من مركز إلى مركز آخر مساوٍ أو أعلى ويوصف عندها بكلمة ’’الترقية‘‘.

 

ليس القضاة مثل الجيوش التي تتراوح فيها الرتب العسكرية من الجندي إلى الجنرال . وفي المبدأ ، فانهم جميعا” من رتبة واحدة وهذه الرتبة اسمها قاضي . ويتولون محاكم مختلفة . لكن القاضي يظل قاضيا” مهمته ممارسة السلطة القضائية بحسب المادة 20 من الدستور التي تعطيه التفويض الدستوري الذي لا يملكه سواه وهو اصدار الاحكام والقرارات باسم الشعب اللبناني .

 

إلا أن المادة 20 لا تجعل من القاضي دكتاتورا” ولا تعطيه حصانة من المساءلة والملاحقة . فانها تشترط ان يحفظ القانون للقضاة والمتقاضينالضمانات اللازمة . كما وتشترط ان يكون القضاة مستقلين .

 

إذن يجب أي يعطي القاضي الضمانة اللازمة وهي عدم نقله أو إعادة تعيينه دون موافقته المسبقة . وهذا هو المبدأ السائد في كل الدول المتقدمة . اما اذا كان لا يمارس مهام وظيفته القضائية بصورة صحيحة أو لا يتمتع بالأهلية اللازمة أو كان فاسداً فإنه لا ينقل بل يعزل .

 

وهكذا فان المسألة التي يجدر طرحها ليست ابرام وتنفيذ التشكيلات التي يستنبطها مجلس القضاء الاعلى ، بل  كيف يمكن اختيار قضاة صالحين ويتمتعون بالنزاهة كما بالكفاءة والاهلية اللازمتين لشغل المراكز التي توليهم صلاحية ممارسة السلطة القضائية باسم الشعب اللبناني وباحترام الضمانات القضائية التي يفرضها الدستور والمتوافقة مع المعايير الدولية ولا سيما تلك التي يحيل اليها الدستور .

 

واذا كانت هناك من عجلة في الأمر فان العجلة ليست مطلوبة لاجراء تشكيلات على ذوق السياسيين النافذين او لصالح ازلامهم بل لتعيينات قضائية شاملة تشكل قفزة إلى الامام في اختيار القضاة الصالحين ، مع إقرار مبدأ عدم جواز النقل أو إعادة التعيين في المستقبل دون موافقة القاضي . وعلى سبيل المثال ، فقد تداولت بعض الصحف أسماء قضاة شملهم مشروع التشكيلات القضائية بإعطائهم مراكز أعلى في حين أنهم مشكو منهم أمام التفتيش القضائي أو الهيئة العامة لمحكمة التمييز أو النيابة العامة التمييزية ! وأحدهم مشكو منه بالتزوير ومع ذلك فقد رشح ، على حد ما جاء في تلك الصحف ، رئيساً لمحكمة للجنايات . فكيف يجوز ذلك؟

 

كيف يتم اختيار القضاة ؟

 

’’ هيدا الموجود‘‘! عبارة نسمعها كثيرا” . لكننا لو دققنا في ما هو بالفعل موجود لامكننا ان نميز بين القاضي الصالح والقاضي غير الصالح . فلنعين الأول ونقصي الثاني او نخضعه لاعادة  التأهيل .

 

فيصبح السؤال اذن : كيف نعرف القاضي الصالح الذي يحق اعطاؤه التفويض الدستوري بمقتضى المادة 20 ليحكم باسم الشعب اللبناني ، لا الذي يرضى عنه السياسيون ؟ !

 

هناك ثمانية مصادر رئيسةعلى الأقل لمعرفة من هو القاضي الصالح وهي :

 

أولا: اعمال القاضي اثناء ممارسته للتفويض الدستوري التي تنضح بجودتها او عدم جودتها !

وبمراجعة هذه الاعمال ولا سيما الاحكام وملفات الدعاوى، يمكن بكل بساطة معرفة :

 

(أ) مدى علم القاضي القانوني واحترامه للقانون .

(ب) مدى التزام القاضي بالضمانات القضائية بمقتضى المعايير الدولية التي يحيل اليها الدستور .

(ج) الوقت الذي استغرقه قيام القاضي بوظيفته في كل ملف .

(د) مدى فسخ قراراته باستعمال طرق الطعن ولأية اسباب .

(هـ) مدى انسجامه مع نفسه وعدم وجود دلائل على الصيف والشتاء على السطح ذاته مثل القاضي الذي يصدر قرارات متناقضة بحسب الأشخاص.

(و)مدى تأخره في إصدار القرارات عن مواعيدها . فهناك مرشحون لمراكز قضائية رفيعة يتأخرون عن إصدار القرارات أشهراً بل سنوات !   

 

ثانياً :ملفات دعاوى مسؤولية الدولة عن أخطاء القضاة العدليين . وهي دعاوى تقام أمام الهيئة العامة لمحكمة التمييز . ويوجد منها اليوم ما يناهز الـ 600 دعوى عالقة نسبت فيها الأخطاء الجسيمة الى عدد كبير من القضاة.

 

ثالثا” : ملفات وسجلات التفتيش القضائي التي تبين الشكاوى التي وردت ضد القضاة والتحقيقات التي اجريت معهم والملاحقات التأديبية التي تعرضوا لها .

 

رابعاً” : ملفات المحاكم التي تبين الدعاوى الشخصية التي دخل فيها القاضي كمدع او مدعى عليه سواء بنفسه او بشخص اقربائه المقربين كزوجته وأولاده وكيف تصرف فيها وما هو الحكم الذي صدر في كل منها ، وبالنفس ذاته الملفات التي نظرها في الدعاوى الشخصية التي تقدم بها زملاؤه من القضاة او ازواجهم او اولادهم او التي كان وكيلا” فيها احد هؤلاء ومعرفة كيف حكم بها .

 

خامساً: علاقات القاضي السياسية وهل زار او يزور أيا من السياسيين او يتلقى اتصالات منهم وهل تدخل أي سياسي لحمايته او ترقيته ؟

 

سادساً : هل هناك محامون يمارسون المهنة وهم من أقرباء القاضي الأقربين ويستفيدون عملياً من صلة القرابة ؟

 

سابعاً : رأي سائر القضاة والمحامين . ويكن استفتاؤهم سرا” باستعمال اسئلة مكتوبة مع ضمان سرية هوية المجيب كما يحصل في استطلاعات الرأي العام .

 

ثامناً : استطلاع رأي المتقاضين سرا مع ضمان عدم التعرض لهم مهما بلغ بهم القول .

 

 

صحيح ان المهمة شاقة لكنها ضرورية . والاشق منها ان يؤلف مجلس الوزراء لجنة من رجال قانون الموثوق بهم علماً وخلقاً وخبرة يتولون التدقيق في ملفات كل القضاة دون استثناء لدى كل المصادر المنوه عنها دون ان يحجب عنهم أي ملف .

 

معالجة النقص بالاستعارة من الخارج ؟

 

وهناك احتمال جدي ان يتبين نتيجة للتدقيق المقترح انه لا يوجد قضاة مؤهلون كفاية وكافون لشغل كل المراكز الحساسة ولا سيما رئاسة محاكم الاستئناف والتمييز وهيئة التفتيش القضائي والنيابات العامة .

 

وفي هذه الحالة يصبح من الضروري ، بعد تعديل قانوني يسمح بذلك ، استعارة قضاة مؤهلين من الخارج ليشغلوا هذه المراكز مؤقتا” بالتعاقد معهم بالاتفاق مع دولهم . فليكن هناك قضاة مؤهلون من الهند وباكستان وسري لانكا وماليزيا واندونيسيا والسويد وتركيا وكوبا والدول العربية . وليوضع التراجمة المؤهلون في خدمة من لا يحسن منهم اللغة العربية .

 

ولا بأس ان نعود لمدة انتقالية تتراوح بين خمس وعشر سنوات إلى هذا النوع من المحاكم المختلطة .

 

ولا شك أنه عندما تمارس محاكم الاستئناف والتمييز المطعمة بقضاة غير لبنانيين عملها بالكفاءة والاستقلال اللازمين وباحترام وتطبيق المعايير الدولية التي يحيل اليها الدستور ، فان اعمال محاكم الدرجة الأولى، التي ينبغي ان يشغلها قضاة كفؤون خضعوا للتدقيق المنوه عنه ، سوف تنتظم وتصبح اكثر عدالة وسرعة.

 

ما هو رأيكم؟

 

بكل مودة.

المحامي محمد مغربي