المجلس العدلي وعصر الرعب

في العام 1793، وهو العام الرابع بعد انطلاقة الثورة الفرنسية، بدأ في فرنسا عصر عرف بإسم ‘‘عصر الرعب’’. وفي خلال سنة واحدة تمّ قتل أو إعدام زهاء أربعين ألف فرنسي منهم ستة عشر ألفاً بقطع الرأس بواسطة آلة الجيلوتين. وتمّ إصدار الحكم بأقل من نصفهم عن محكمة ثورية في إجراءات سريعة ومختصرة. أما الأكثرية منهم فقد تمّ إزهاق أرواحهم دون حاجة لحكم.

وان ما ذكرني بعصر الرعب الفرنسي هو أن احدى الصحف نشرت صباح الثلاثاء على صفحتها الاولى رسماً لإمرأة تمثل آلهة العدالة وهي تشحذ السيف في اشادة بقرارات أصدرتها محكمة إستئناف في بيروت برد طلبات ردّ المحقق العدلي شكلاً، والإنقسام الواسع بين جمهورين كبيرين: احدهما مؤيد للمحقق العدلي والآخر منتقد له، سواء داخل لبنان أو خارجه.

نعم، كما جاء في أحد قرارات محكمة الإستئناف، ليس هناك من نص قانوني خاص يجيز بصراحة طلب رد المحقق العدلي أو مادة قانونية تحدد بصراحة المرجع المختص للنظر بطلب الرد. لكن المادة 120 من قانون اصول المحاكمات المدنية تؤلف نصاً عاماً يجيز طلب رد القاضي، أي قاضٍ، لواحد من ثمانية أسباب خطيرة هي:

1- إذا كان له أو لزوجه أو لخطيبه مصلحة مباشرة أو غير مباشرة في الدعوى ولو بعد إنحلال عقد الزواج أو الخطبه.

2- إذا كان بينه وبين أحد الخصوم أو وكيله بالخصومة أو ممثله الشرعي قرابة أو مصاهرة من عمود النسب أو الحاشية لغاية الدرجة الرابعة ولو بعد انحلال الزواج الذي نتجت عنه المصاهرة.

3- إذا كانت له صلة قرابة أو مصاهرة لغاية الدرجة الرابعة بأحد أعضاء مجلس الشركة المختصمة أو بأحد مديريها وكانت لهذا العضو أو المدير مصلحة شخصية بالدعوى.

4- إذا كان أو سبق ان كان وكيلاً لأحد الخصوم أو ممثلاً قانونياً له أو كان أحد الخصوم قد اختاره محكماً في قضية سابقة.

5- إذا كان قد سبق له أو لأحد أقاربه أو اصهاره لغاية الدرجة الرابعة ان نظر بالدعوى قاضياً أو خبيراً أو محكماً أو كان قد أدى شهادة فيها. وتستثني الحالة التي يكون فيها ناظراً بالإعتراض أو إعتراض الغير أو إعادة المحاكمة ضد حكم اشترك فيه هو أو احد أقاربه او اصهاره المذكورين.

6- إذا كان قد أبدى رأياً في الدعوى بالذات ولو كان ذلك قبل تعيينه في القضاء. ولا يصح إثبات هذا الأمر إلا بدليل خطي أو بإقرار القاضي.

7- إذا كانت بينه وبين أحد الخصوم عداوة أو مودة يرجح معها عدم استطاعته الحكم بغير ميل. ولا يستهدف القاضي للرد بسبب التحقير الذي يوجهه له أحد الخصوم.

8- إذا كان أحد الخصوم دائناً أو مديناً أو خادماً للقاضي أو لأحد أقاربه لغاية الدرجة الثانية.

وأوجبت المادة 121 منه على القاضي أن يعرض تنحيه من تلقاء نفسه في الأحوال المبينة في المادة السابقة.

نعم، وكما جاء في أحد القرارات التي أصدرتها محكمة الإستئناف، ليس هناك من نص قانوني خاص يحدد المرجع القضائي صاحب الإختصاص بالنظر بطلب الرد، لكن القاعدة العامة التي أقامتها المادتان 123 و 124 من قانون أصول المحاكمات المدنية هي ان محكمة الاستئناف تنظر في طلبات ردّ قضاة محاكم الدرجتين الأولى والثانية، أي البداية والإستئناف، وان محكمة التمييز تنظر في طلب ردّ قضاة تلك المحكمة.

فيكون الخيار في تعيين المحكمة التي تنظر في طلب ردّ المحقق العدلي واحداً من اثنين، محكمة الإستئناف أو محكمة التمييز، وذلك بحسب تصنيف المحقق العدلي. فهو اما تابع لمحكمة الإستئناف كسائر قضاة التحقيق، أو تابع لمحكمة التمييز باعتبار ان المجلس العدلي يتألف من قضاة في محكمة التمييز فحسب ويصدر أحكاماً مبرمة وغير قابلة للطعن شأنه في ذلك شأن محكمة التمييز. فيكون بذلك بمثابة غرفة خاصة من محكمة التمييز تنظر في الدعاوى المحالة عليها بالدرجة الأولى والأخيرة.

اما القول بأن المحقق العدلي مستثنى من الأحكام الصريحة التي توجب الرد والتي نصت عليها المادة 120 من قانون أصول المحاكمات المدنية فهو استنتاج بشع ومسيء لفكرة العدالة لأن كلاً من الحالات الثمانية التي ورد ذكرها تفصيلاً كما هو مبين أعلاه تؤلف اخلالاً خطيراً بحياد القاضي وتشكك في نزاهته وتقيمه خصماً وحكماً في آن واحد.

وإن منع القاضي الذي تتوافر فيه أحد الشروط الموجبة للرد من وضع يده على ملف الدعوى هو أولى وأشد ضرورة بمراحل كبيرة من تفسير النص المتعلق بصلاحية محكمة الإستئناف ومحكمة التمييز تفسيراً ضيقاً بأنه لا يجوز لأي منهما أن تضع يدها على طلب الرد.

ومما يعزز ما تقدم هو أنه ليس هناك من نص قانوني خاص بالمحقق العدلي يؤكد خضوع أعماله للضمانات لحق الدفاع التي تنص عليها الاحكام المتعلقة باعمال قاضي التحقيق العادي ومنها أنه يمكن الطعن أمام مرجع أعلى هو الهيئة الإتهامية بمعظم قراراته ولا سيّما منها قرار التوقيف وقرار الظن وقرار رد الدفوع الشكلية، وان قرارات الهيئة الإتهامية قابلة في حالات عديدة للطعن أمام محكمة التمييز. وكل ذلك مما يدعم حق الدفاع.

والأخطر من كل ما تقدم أن لا حدود زمنية لفترة التوقيف الإحتياطي الذي يقرره المحقق العدلي، وان المحقق العدلي، وبحسب النص القانوني الصريح، هو وحده الذي يصدر القرار الإتهامي الذي يحيل المدعى عليه للمحاكمة أمام المجلس العدلي، وهو قرار غير قابل للطعن. لكن المجلس العدلي هو آلة قضائية استثنائية وخطيرة لأنه محكمة درجة وحيدة ولا تقبل أحكامه أي طعن. ولا يجوز، بحسب الإجتهاد السائد، طلب ردّ قضاته وكأن المادة 120 من قانون أصول المحاكمات المدنية لا وجود لها.

 ولي تجربة شخصية سيئة في هذا المجال. فبعد إحالة دعوى إغتيال المرحوم رشيد كرامي إلى المجلس العدلي، وكان المتهم الرئيسي فيها السيد سمير جعجع، توكلت عن ضابط متقاعد في الجيش تمّ توقيفه والإدعاء عليه في ذات الدعوى بزعم أنه حرّض جندياً سابقاً على إلقاء قنبلة يدوية على ضريح الفقيد يوم ذكرى أربعين إغتياله. وهو أمر غريب! فما علاقة هذا الفعل المزعوم بجريمة الإغتيال؟ وكيف يقع ضمن صلاحية المجلس العدلي؟ والأغرب من ذلك ان الضابط المتقاعد كان موقوفاً ومحكوماً عليه في سوريا ثم تمّ ترحيله إلى لبنان حيث أوقف في إطار  دعوى المجلس العدلي المذكورة، فيطرح السؤال عما إذا كان قد تمّ الحكم عليه في سوريا بذات الجرم الذي يلاحق به أمام المجلس العدلي، وهذا ما يثير المبدأ القانوني الذي يمنع الملاحقة في الجرم الواحد مرتين. فطلبت تكليف النيابة العامة الإتيان بملف الدعوى السورية من مرجعها القضائي في سوريا. فرد المجلس العدلي طلبي. وطلبت إعطائي صورة عن ملف الدعوى فامتنع رئيس المجلس العدلي عن الترخيص لي بذلك وقال كاتبه ان الرئيس كلفه بإعطائي من الأوراق ما يرى ان له علاقة بموكلي حصراً. أي أن رئيس المجلس كان له رأي مسبق في الدعوى يحدد لي إطار ما يمكن لي ان استعمله على وجه الدفاع من الأدلة الثابتة بالملف. فتقدمت بطلب رده. فاجتمعت الهيئة العامة لمحكمة التمييز على وجه السرعة وقررت ردّ الطلب. فانسحبت من الدعوى مضطراً لحرماني من ممارسة حق الدفاع.

لكن، وبعد ان صدرت أحكام كثيرة عن المجلس العدلي ضد السيد سمير جعجع وبعد ان قضى سنوات طويلة في السجن صدر قانون عجيب عن مجلس النواب بالعفو عنه. وهذا القانون يشي بالطبيعة السياسية لقرارات الإحالة أمام المجلس العدلي التي تؤكدها دعاوى سابقة. وصرّح وزير العدل ان مفعول القانون هو ان جعجع بريء مثلما ولدته أمه!

أما في الدعوى أمام المجلس العدلي ضد الرئيس العماد ميشال عون ورفيقيه الوزيرين أبو جمرة ومعلوف وتمّ فيها تعيين ثلاثة محققين عدليين على التوالي، والتي استمرت دون تقدم يذكر مدة أربعة عشر عاماً بانتظار نتائج أعمال لجنة مالية قام المحقق العدلي الأول بتعيينها، تمّ إتخاذ القرار السياسي من أهل الحل والربط بتيسير عودة الرئيس العماد عون والوزيرين إلى الوطن، وصدر القرار عن المحقق العدلي الثالث والأخير بمنع المحاكمة عنهم جميعاً!

وفي نهاية عهد الرئيس شمعون، أُحيل زهاء 120 شخصاً بتقدمهم الزعماء السياسيون الذين قادوا ‘‘ثورة العام 1958’’ ضد الحكومة، إلى المجلس العدلي. وصدر بالفعل عن المحقق العدلي قرار إتهامي ضدهم بجنايات الإعتداء على امن الدولة. لكن هذا القرار سقط بعد إنتهاء عهد الرئيس شمعون وتولي اللواء فؤاد شهاب رئاسة الجمهورية.

إذن لا بدّ من الإعتراف بأنه كثيراً ما تمّ إستعمال المجلس العدلي في الماضي كأداة ترهيب، وان هذا المجلس بتكوينه وبإعطاء أعضائه والمحقق العدلي لديه ضمانات شخصية أشدّ وأمضى من الضمانات التي يعطيها القانون اللبناني ومعظم قوانين الدول المتحضرة لحق الدفاع وتجعلهم بمنأى عن المساءلة والطعن. كل ذلك مما يوجب إلغاء هذا المجلس برمته وبمحققه العدلي والإكتفاء بالمحاكم العادية المنصوص عنها في قانون أصول المحاكمات الجزائية مع تعديل هذا القانون بكل ما يعزز حق الدفاع.