غلاسنوست لبناني لمكافحة الفساد والاستبداد

غلاسنوست glasnost كلمة روسية تعني العلانية والشفافية، وبالتالي حق وحرية الحصول على المعلومات. وهي شعار المرحلة الاخيرة من حكومة الاتحاد السوفياتي تحت زعامة غورباتشوف (1986 ـــــــ 1991) بعد ان كانت مطلبا” بارزا” من مطالب المعارضة الاصلاحية. فلما تبنى غورباتشوف هذا الطرح المناقض لمركزية السيطرة على المعلومات وسريتها التي كانت تؤلف عنصرا” جوهريا” من عناصر النظام السوفياتي، تهاوى هذا النظام وصار الى الزوال.

وسعيا” لإقرار هذا المبدأ، وقف إندره ساخاروف فور تلقيه جائزة نوبل في العام 1975 أمام دار إحدى المحاكم في ليتوانيا، حيث كان يحاكم أحد الناشطين في حقوق الانسان دون أن يسمح للجمهور بدخولها، مطالبا” به. ذلك أنه من أهم الحقوق التي يقوم عليها النظام القضائي. فمن الواجب ان تعقد وتجري جلسات المحاكمة علنا” في حضور كل الناس الذين يشاؤون حضورها، وأن تتلى الاحكام فيها علنا”. وتقوم كل محاكمة على أساس إطلاع أطرافها الكامل على كل المستندات والادلة التي تدخل في ملفها وتمكنهم من مناقشتها والسعي لدحضها.

وهذا ما أضاءت عليه إعادة محاكمة الضابط الفرنسي درايفوس الذي كانت محكمة عسكرية أسندت حكمها عليه الى وثائق لم يطلع عليها ولم تتاح له مناقشتها. وجرى سجنه في جزيرة الشيطان حتى ايقظ الرأي العام الكاتب الفرنسي اميل زولا بمقالته الشهيرة في جريدة الاورور الفرنسية (1898) تحت عنوان: إني أتهم ! فتمت تبرئة درايفوس وإعادته الى الجيش.

إن الاستبداد يؤدي الى الفساد، والعكس صحيح.

ومما لا نزاع عليه أن العلانية والشفافية ضرورتان لمكافحة الفساد والاستبداد وفيهما تكريس حق الحصول على المعلومات ومناقشتها.

ومن أبسط مظاهر إحترام العلنية عموما” نشر القوانين والانظمة والمراسيم والقرارات الوزارية في الجريدة الرسمية للدولة. لكن هذه القاعدة لا تطبق دائما” في لبنان. فعندما صدر مرسوم الجنسية الشهير في العام 1994 نشر بكامله، وجرت مناقشته علنا”، إلا أنه ومنذ ذلك الحين لم ينشر في الجريدة الرسمية أي مرسوم تجنيس فردي أو جماعي !

وفي القضاء فإن مراسيم التعيينات القضائية تنشر دائما”. إلا ان قرارات توزيع الاعمال التي تصدر عن وزير العدل بناء” لإقتراح مجلس القضاء الاعلى لم تكن تنشر. ومع ذلك فإنها كانت متاحة للناس وكان مكتب الوزير يوزعها لوسائل الاعلام. لكن هذه القرارات لم تعد متاحة منذ تأليف الحكومة الحالية بل إنها أصبحت محاطة بالسرية حتى أنه لا يمكن لأحد طلبها أو الحصول عليها سواء من مجلس القضاء الاعلى أو من وزارة العدل. وبدلا” من التشكيلات القضائية الدورية التي كانت تصدر بمرسوم ينشر في الجريدة الرسمية، أصبح مجلس القضاء الاعلى يقترح على وزير العدل من وقت لآخر اصدار إنتدابات قضائية مؤقتة لكنها واسعة النطاق وتطال في كل مرة عشرات القضاة فيصدر الوزير بها قرارات لا تنشر في الجريدة الرسمية ولا تعطى للجمهور وحتى للمحامين.

ومن عيوب هذه الانتدابات تكليف قضاة من محاكم الدرجة الاولى بوظيفة مستشارين بالتمييز.

ومن الامثلة على ان قضية درايفوس لم تعط أثرا” كثيرا” في لبنان أنه صدر حديثا” عن احدى غرف محكمة التمييز حكم بالغرامة والتعويض بالاستناد الى اوراق لم تكن متاحة لكل اطراف الدعوى.

اما حضور الجمهور للمحاكمات فإنه لم يعد حقا” من حقوق الناس. فإنه لا يسمح بالدخول الى المحكمة العسكرية إلا لذوي الذين تتم محاكمتهم. أما في قصر العدل في بيروت فإنه لا يسمح للجمهور بالدخول اليه دون سبب مقبول. وقد بلغ الارتياب من رئيس احد المحاكم ان تسبب بتوقيف شخص كان يحضر جلسات محكمته ثم تبين انه من المحامين.

وخارج نطاق القضاء فإن مختلف وزارات الدولة اللبنانية ومديرياتها تصدر قرارات وتعاميم وأنظمة لا يتم نشرها في الجريدة الرسمية لكنها تطبق على الناس عامة دون اعطائهم صورة عنها. ومن هذه المديريات، على سبيل المثال لا الحصر، مديرية الامن العام ومديرية قوى الامن الداخلي ومديرية المالية العامة. وحتى انه صارت تصدر تعاميم عن مجلس القضاء الاعلى أو رئيسه دون نشرها.

غلاسنوست مطلوبة جدا” في لبنان وبكل إلحاح، لأن الشفافية والعلانية وحق الوصول الى المعلومات وإستعمالها هي من الضرورة بمكان وتؤلف الحماية الاولى والاقوى للمجتمع وللنظامين السياسي والقضائي.

ذلك انه لا بدّ أن ينتج عن غياب غلاسنوست المزيد من الفساد والاستبداد.