«قضاة لبنان»: صيف وشتاء تحت سقف المساءلة

حفظت هيئة التفتيش القضائي ملفاً شمل 11 محامياً و8 قضاة
 (رضوان مرتضىومروان طحطح، جريدة الأخبار، الإثنين في 12 آب 2013)

لا تختلف «العدلية» عن باقي مؤسسات الدولة. في صروح العدالة، يُعشّش الفساد. تُقبض رشى وتقع ارتكابات، ثم يعتصم الفاعل بحبل المحسوبية الذي يُخفّف العقوبة أو يُجنّبه إياها. هنا نماذج عن استنسابية المحاسبة بين قاضٍ ابن ستّ وآخر ابن جارية
«رائحة تُفاحة عفنة كفيلة بنفور الجائع من بقية تفاح الصحّارة الجيد». هكذا هو حال «عدليات» لبنان، التي لا يختلف اثنان على أن السواد الأعظم من قضاتها أكفاء، لكنّ قلّة قليلة تُخرّب عليهم، فيؤخذ القاضي الجيد بجريرة المُسيء. تلك ليست القصة، إنما أن ينقسم القضاة بين «ابن ست» و«ابن جارية»؟ فهنا تكمن القضية. وورقة اليانصيب هنا «ضهرٌ سياسي» أو رضى مجلس القضاء الأعلى، وإحدى هاتين، كفيلة بأن ينال صاحبها المنصب الذي يُريده.

منذ مدة، فتحت هيئة التفتيش القضائي تحقيقاً شمل أحد عشر محامياً وثمانية قضاة. وبحسب المعلومات، خاض التحقيق في «العلاقة المشبوهة» التي تربط بينهم. فأُجري كشفٌ على حركة اتصالات القضاة والمحامين، لكن بقدرة قادر حُفظ الملف في أحد الأدراج. وفي الوقت نفسه، يعاقب قضاة، مذنبون ربما، لكن استنسابية العقاب تُظهر اختلالاً في ميزان العدل. فتضج ألسنة قضاة بالشكوى من غياب العدل بين أهل العدالة. يشكو هؤلاء من «تطويب» مراكز قضائية مهمّة لقضاة محظيين يشغلونها منذ عشر سنوات. لماذا يبقى قاضٍ في المركز نفسه كل هذه السنوات، فيما يمكن الاستفادة منه في مراكز أخرى. «في عدلية لا إنصاف بين قضاتها، كيف يُحقق العدل بين الناس»، يقول أحد القضاة، ولا سيما أن الرئيس الأول جان فهد الذي يطلق عليه البعض لقب «قديس العدلية»، تمكن من القفز فوق ٢٢ قاضياًً من الطائفة المارونية بعون سياسي.

يبلغ عدد القضاة في لبنان نحو ٥٠٠ قاضٍ يتوزعون بين الطوائف. والاستنسابية في معاملتهم مردّها إلى «الحصانة» السياسية التي يتمتع بها بعضهم. أما أصل المشكلة، بحسب قضاة، فبدأ مع توزيع المناصب بعد الطائف. في عامي ١٩٩٣ و١٩٩٧ أُنجزت تشكيلات قضائية شاملة، كانت الأكبر في تاريخ القضاء اللبناني ، فوُزّعت معظم المراكز الحالية طائفياً على أساسها. ومنذ ذلك الحين، سُجّلت عشرات التجاوزات بين قضاة دارت الدوائر عليهم لكونهم الأضعف. أبرزها كان عام ١٩٩٨، يومها أُثيرت ضجة بشأن قاضيين يشغلان منصب محام عامّ في بيروت. القاضيان هما ج. ح. وغ. ف.. شقيق كل منهما كان كثير المشاكل، فيما الكيدية كانت سمة التعاطي لدى القاضيين في تعاملهما مع شقيق الآخر. يومها قرر رئيس هيئة التفتيش القاضي منير حنين محاسبة القاضيين باعتبارهما يسيئان إلى العدلية. وبدل تحييد الاثنين ومعاقبتهما بالعقوبة نفسها، رُمي غ. ف. مستشار اً للاستئناف في البقاع، وهو يستحق ذلك بحسب بعض القضاة. أما القاضي الثاني، فعوقب بترقيته ليُعُيّن محامياً عامّاً في صيدا.. وفي سياق الاستنسابية أيضاً، أُحيل القاضي ع. ص. الذي كان يشغل منصب قاضي تحقيق على مجلس التأديب في العام نفسه. يومها افتُضح قيام امرأته بمساعدة شقيقتها، بتزوير فواتير ثم تقديمها لدى صندوق تعاضد القضاة. ورغم ثبوت عدم علم القاضي بالتزوير الذي ارتكبته زوجته، طُلب إليه تقديم استقالته تحت طائلة محاكمته وسجنه. أما القاضي هـ. ح.، الذي يشغل شقيقه مركز المستشار الإعلامي لدى أحد المفتين، فقد أعطى شيكات لصندوق التعاضد من دون رصيد، لكن وساطة المفتي لملمت الموضوع. وقد ارتكب القاضي ك. س. الفَعلة نفسها، لا بل كان يزوّر فواتير وهمية، فكانت عقوبته بنقله مستشاراً إضافياً في الاستئناف من دون إجباره على الاستقالة.

في عهد المدعي العامّ التمييزي سعيد ميرزا، ذاع صيت أن القاضي أ. ق. «شبيح»، فعوقب برميه مستشاراً رديفاً ومُنع من تبوّء أي مركز. ويتكرر الاستنساب أيضاً مع القاضي أحمد ع. الذي كُسر درجتين بعد ثبوت تورطه في سمسرة فساد، علماً أن القاضي نفسه سبق أن افتعل خلافاً على أفضلية المرور في طرابلس، فأطلق النار في الهواء إرهاباً من سلاح حربي، فنُقل «تأديبياً» من قاضي تحقيق طرابلس إلى معاون مفوض حكومة في المحكمة العسكرية. القاضي غ. خ. ابن رئيس مجلس قضاء أعلى أسبق، اتهم في عدلية بعبدا بأكثر من ملف فساد، فعوقب بكسر درجة، لكنه نُقل رئيساً للقضاة المنفردين في بيروت، أي إلى منصب مهم. أما القاضي ع. ج. الذي تورط في ملفات مشابهة، فأوقف عن العمل سنتين، وكُسرت له ٣ درجات، ثم عُيّن مستشاراً رديفا في النبطية، وقاضياً منفرداً في النبطية أيضاً. أي جرى الاقتصاص منه بوضعه في المنصب الذي كان فيه قبل عشرين عاماً.

القاضية ل. أ. التي تشغل منصب مستشارة الجنايات في البقاع منذ ١٢ سنة، لا حصانة سياسية لها. المرأة مقيمة في بيروت، تطلب نقلها مستشارة استئناف في بيروت للارتياح من عبء المسافة بعد هذه السنين، يأتيها الرد: «هل يحتمل ضميرك أن تُعذبي مكانك قاضياً آخر». أما القاضية م. ل.، فتُقترح محامياً عاماً في جبل لبنان بعدما «كيّعت» رئيس محكمة الجنايات في جبل لبنان هنري خوري بعدم حضورها أيّ من جلسات المحكمة عندما كانت مستشارة فيها. عطلت محكمة الجنايات من دون أن تُسأل، بل كُلّفت شغل منصب قاضية الأمور المستعجلة، ورئيس دائرة تنفيذ بالمناوبة. كذلك يلهج قضاة باسم أحد رؤساء محاكم الجنايات، قاضٍ عليه ملفات فساد لدى التفتيش، لكنه لا يُحاسب عليها. مجدداً بدأ يتردد في أوساط المتقاضين لديه أنك إذا أردت ربح حُكمٍ في الجنايات فعليك توكيل زوجة ابنه، وهي محامية تعمل في مكتب محاماة صار يتعهّد معظم الدعاوى الموجودة لديه. ولم يحدث أن استُدعي لا القاضي ولا القاضية إلى التفتيش للسؤال، فيما باقي القضاة الذين لا حصانة لهم، توجّه إليهم التنبيهات على أمور أقل من عادية.

في المقابل، يسترسل بعض القضاة ويُجمعون على الإشادة بأسماء بعض زملائهم. فالقاضي م. ط. الملقب بـ «ميكي»، الذي يملك مبنى في نيويورك، يعيش حالاً من القرف من «العدلية». يُخبر عارفوه أنه لا يحضر إلا ساعتين، ويأخذون عليه ذلك، لكن لدى سؤاله يردّ بأن العدلية لا تستحق أكثر من ذلك، علماً أنه يُنجز جميع أحكامه في منزله. هناك قضاة يعملون من الفجر إلى النجر، بلا كلل أو ملل، ولا يعلم بوجودهم احد.

يُعرّي بعض القضاة أحد زملائهم. وعلى سبيل المثال لا الحصر، يحكون عن علاقة مميزة تربط هذا القاضي بوزير الدفاع الأسبق الياس المر، الذي لا يرفع يداً عن أخرى بغير علمه. يتحدثون عن توظيف علاقته هذه وعلاقته مع المحاميين د.م. و ج.ح. لتحسين وضعه المعيشي. يذكرون أنه كان يمتلك عام ٢٠٠٤ سيارة من طراز ١٩٩٦ لا يتعدى ثمنها بضعة آلاف من الدولارات. أما عام ٢٠٠٩، فاشترى سيارة رباعية الدفع يتجاوز ثمنها ثمانين ألف دولار، كما يذكرون أن ثمن منزله يفوق المليون، فضلاً عن ان أحد مالكي البناء، الذي تقع فيه شقته، لديه ملف لدى المحكمة العسكرية يتعلّق بانتمائه إلى عصابة سرقة مسلّحة واخفائه سيارات مسروقة لديه. وقد اكتُفي بمدة توقيفه أحد عشر شهراً من دون تعليل، بعد وساطة من القاضي نفسه، وضابط مقرّب من وزير الدفاع.