لوقف الانزلاق الى إعلاء حكم الارهاب والقضاء تماماً على حكم القانون

لا ريب ان بعض الذين تظاهروا تأييدا امام بيت قاضي التحقي العدلي السيد فادي صوان حسنو النية وان البعض الآخر تم تحريضهم من جهة سيئة النية تحاول استيلاد حالة تشبه حالة مسلسل الاعدامات بالمقصلة او بدونها اثناء الثورة الفرنسية التي حصدت آلاف الابرياء والتي كان جمهور غفير من المؤيدين يتجمع حولها، اي حول المقصلة، ويهتفون تأييداً لها. وقد وصف هذه الحالة الشخص المنسوب اليه اطلاقها ماكسميليان روبسبيار، وكان من كبار قادة الثورة، بانها الارهاب المقترن بالفضيلة وهدفه حماية الثورة. فانشئت الى جانب المقصلة محكمة ثورية ! الا ان قطع الرؤوس استمر بالمقصلة وخارجها وبالمحكمة ودون محكمة ووصل الى ذروته بإعدام الملك والملكة بقطع الرأس كما قطعت رؤوس عدد كبير من النبلاء الذين تم اعتبارهم من الطبقة الحاكمة ولم يتمكنوا من الهرب خارج البلاد.

واليوم تنتشر مقولة تشبه مقولة الارهاب مع الفضيلة ! وهي: انت سياسي، إذن انت حرامي ! وسرعان ما تتغيّر هذه المقولة الى: انت من الطبقة الحاكمة سوف نعلقك على المشنقة ! وقد يتم ذلك فعلاً سواء عن طريق المشنقة او على النموذج الداعشي بقطع الرؤوس وكل ذلك من اجل اعلاء فضيلة الثورة. ذلك ان كل ثورة، ولو انها ابتدأت بيضاء، سرعان ما يتغير لونها الى الاحمرار.

فهل ستكون للقضاة حصانة من الارهاب مع الفضيلة ؟ أبداً فهم من اصحاب السلطة التي ليست فوقها سلطة. ولن تكون هناك من حصانة منه للنواب والوزراء والرؤساء وسائر رجال الدولة وكبار الموظفين الحاليين والسابقين.

وان وقف جرّ البلاد الى حكم الارهاب، ولو مع الفضيلة على غرار الثورة الفرنسية، هو اليوم واجب اكثر من أي يوم مضى. ولا يكون ذلك الا بإعلاء شأن حكم القانون ونزاهة القضاء.

وإن حكم القانون لا يعني حكم القضاة، فإن دور القاضي ليس كتابة القانون بل تطبيقه كما كتب بكل نزاهة وصدق. وإذا لم يفعل ذلك فانه يساهم بفتح الطريق واسعاً نحو حكم الارهاب مع الفضيلة أو دونها.

وحتى يتمكن القاضي من تطبيق القانون بالفعل فإنه من الضروري، الى جانب ضمان تحقق شرط النزاهة أولاً، توافر شرطين: الشرط الاول ان تكون هناك دعوى له ولاية عليها، والشرط الثاني ان تكون هناك نصوص قانونية قابلة للتطبيق على موضوع الدعوى وهو ما يسمى الاساس القانوني. وإلا فان عمل القاضي مهما كان وصفه هو معدوم الوجود وهو والعدم سواء ولا يلزم احداً أي انه لا يترتب على احد واجب اطاعته.

واستعرض على سبيل المثال لا الحصر الحالة التي نشأت عن صدور مرسوم ايداع حدث انفجار او تفجير 4 آب 2020 في مرفأ بيروت كدعوى لدى المجلس العدلي وتعيين قاضي تحقيق يسمى المحقق العدلي هو السيد فادي صوان. فانطوى المرسوم المذكور على خطأ جوهري نشأت عنه سلسلة اخطاء وصلت الى حد محاولة القاضي صوان استجواب رئيس الوزراء كمدعى عليه في تلك الجريمة دون صلاحية ودون مبرر وهو ما هلل له الجمهور الذي ربما كان وما يزال يتعطش للدم في بيروت على نحو يذكرنا بجمهور الثورة الفرنسية. كما ان هذا المرسوم ما يزال قابلاً للطعن امام مجلس شورى الدولة لانه لم يتم نشره بعد.

ما هو المجلس العدلي ؟

إنه محكمة جنايات استثنائية لا تقبل احكامها اي طريق من طرق الطعن وتحال الدعاوى اليها بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء (المادة 355 أ.م.ج.) وتنحصر صلاحيتها في جرائم محددة (المادة 356 منه).

إذن فإن الخطوة الاولى والمسبقة نحو المجلس العدلي هي وجود دعوى حق عام سبق تحريكها عن مرجع مختص. وان تحريك دعوى الحق العام لا يكون إلا بالادعاء السابق لاحالتها الى المجلس العدلي.

لكن المرجع الصالح لتحريك دعوى الحق العام عملاً بالفقرة (ب) من المادة 24 أ.م.ج. هو النيابة العامة الاستئنافية. أي النائب العام الاستئنافي او احد المحامين العامين لديها.

وليس النائب العام لدى محكمة التمييز بمرجع صالح لان المادة 17 تعطيه حق الادعاء بالجرائم التي تمت احالة الدعوى بها الى المجلس العدلي، وكذلك المادة 360 منه، لأن دور النائب العام التمييزي لا يبدأ الا بعد احالة الدعوى الى المجلس العدلي، وهو الذي يمثل النيابة العامة لدى المجلس العدلي بعد ان يكون المجلس العدلي قد وضع يده عليها، لا قبل ذلك.

ولا يمكن للنيابة العامة الاستئنافية تحريك دعوى الحق العام الا بعد التثبت من وجود جريمة أي فعل جرمي وبعد اجراء الاستقصاء الذي توجبه الفقرة (أ) من المادة 24 أ.م.ج. المذكورة والفقرة (ج) من المادة 25 أ.م.ج. فإذا كان الجرم من نوع الجنحة فلها ان تدعي به امام القاضي المنفرد اما اذا كان من نوع الجناية فانها تدعي به امام قاضي التحقيق. وبذلك فقط تتحرك الدعوى العامة.

وحتى يصير بإمكان مجلس الوزراء اصدار مرسوم بإحالة، اي نقل، هذه الدعوى الى المجلس العدلي فانه يشترط ان يوصف الفعل الجرمي بانه من الجرائم الواقعة على امن الدولة الداخلي او الخارجي والتي ينص عليها قانون العقوبات على النحو التالي:

الجنايات الواقعة على امن الدولة الخارجي

– الخيانة، المواد 273 ـــــــ 280

– التجسس، المواد 281 ـــــــ 284

– الصلات غير المشروعة بالعدو، المواد 285 ــــــ 287

– الجرائم الماسة بالقانون الدولي، المواد 288 ـــــــ 294

– جرائم النيل من هيبة الدولة ومن الشعور القومي، المواد 295 ــــــ 298

– جرائم المتعهدين، المواد 299 ـــــ 300

الجرائم الواقعة على امن الدولة الداخلي

– الجنايات الواقعة على الدستور، المواد 301 ــــ 305

– اغتصاب سلطة سياسية او مدنية او قيادة عسكرية، المواد 306 ــــ 307

– الفتنة، المواد 308 ــــ 312

– الارهاب، المواد 314 ــــ 316

– الجـــــرائم التي تنـــال من الوحــــدة الوطنية او تعكر الصفـــــاء بين عنـــــــاصر الامة، المــــواد 317 ــــ 318

– جرائم النيل من مكانة الدولة المالية، المواد 319 ــــ 320

أما مجرد الاهمال الوظيفي فانه ليس من الجرائم الواقعة على امن الدولة. وقد نص قانون العقوبات على نوعين من جرائم الاهمال. الاول، تحت عنوان اساءة استعمال السلطة والاخلال بواجبات الوظيفة فنصت المادة 373 منه على فعل اهمال الموظف في الادارات او المؤسسات العامة او البلديات، والثاني تحت عنوان الجرائم المخلة بسير القضاء، على جريمة اهمال الموظف المكلف البحث عن الجرائم او ملاحقتها واهمال اي موظف، مطلق موظف، اعلام السلطة ذات الصلاحية عن جريمة عرف بها. ويوجب القانون في الادعاء الصادر عن النيابة العامة الاستئنافية وصف الجريمة اي الفعل وان لم يعرف مرتكبها.

وفي الحالة الحاضرة أسأل: هل كان هناك من ادعاء في الفعل الجرمي امام قاضي التحقيق الاول في بيروت صادر عن المرجع المختص وهو النيابة العامة الاستئنافية قبل صدور مرسوم احالة الدعوى، التي لا وجود لها بعد على المجلس العدلي ؟ أبداً. فيكون المرسوم المذكور معدوم الوجود وكذلك يكون قرار تعيين القاضي صوان للتحقيق في “ الدعوى ” المذكورة.

ولو افترضنا جدلاً وجود الادعاء السابق لمرسوم الاحالة وبالتالي صحة المرسوم المذكور وصحة تعيين القاضي صوان، فإنه كان على القاضي صوان اولاً التحقيق في الوصف الجرمي للفعل، وما إذا كان هناك من فعل، موضوع الدعوى.

فهل ان حادث انفجار المواد المخزنة في العنبر رقم 12 في مرفأ بيروت، هو تلقائي، وكان على سبيل القضاء والقدر فلا يكون هناك من فعل جرمي ! ام هو اعتداء داخلي على امن الدولة في صورة عمل ارهابي قام به اشخاص فجروا تلك المواد ؟ ام انه اعتداء خارجي على البلد بفعل قنبلة او صاروخ ؟

ولماذا يسقط من الحساب التصريح الخطير الذي ادلى به رئيس الولايات المتحدة يوم 5 آب 2020 في مؤتمر صحفي، وهو القائد العام للقوات المسلحة الامريكية فعلاً لا تشريفاً، بان حدث اليوم السابق لذلك التاريخ هو اعتداء عسكري على لبنان وان في الامر قنبلة وان كبار جنرالاته اكدوا له ذلك ؟ لكن بعض وسائل الاعلام الامريكية سارعت الى اطفاء هذا الخبر الخطير بالزعم ان لا صحة له !

وايـــــن هو تقـــــرير الادلة الجنائية forensic القائـــــم على تحليـــل آثار الانفجـــــار او التفجيــــر ؟ لا يوجد ! وقد نسي اولياء الامر انه في حادث إعتداء العام 2005 الذي اودى برئيس الوزراء السابق رفيق الحريري ورفاقه تمّ الحرص على منع العبث بمسرح الجريمة والابقاء عليه سليماً واستمرت تحقيقات خبراء الادلة الجنائية عليه أشهراً بل سنوات ؟

فإذا كان القاضي صوان ينسب الى رئيس مجلس الوزراء او اي من الوزراء او النواب الحاليين او السابقين اهمالاً وظيفياً فليس هناك من فعل جرمي يقع تحت طائلة قانون العقوبات ودائماً ضمن اطار صلاحية المجلس العدلي. وهذا القاضي ليس بالمرجع الصالح للتحقيق في جرائم خارج صلاحية المجلس العدلي !<

وللتذكير، وعدا عن ما تقدم، فإن المسؤولية الجرمية بحسب النصوص الصريحة لقانون العقوبات تقع على الفاعل والشريك والمحرض والمتدخل. وليست هناك من شبهة بأن أياً من الناس الذين اوقفهم القاضي صوان او يرغب في التحقيق معهم كمدعى عليهم فاعلون او شركاء او محرضون او متدخلون في حدث 4 آب 2020 هذا إذا ثبت ان هذا الحدث هو فعل جرمي يمكن وضعه تحت وصف جرائم الاعتداء على امن الدولة.

يجب ألا ننسى الاجماع الدولي على قاعدة ان القرار غير الشرعي، او الصادر عن مرجع غير شرعي، لا يطاع. وتنفي الشريعة الاسلامية واجب اطاعة السلطان الجائر. وفي رأيي فان قرار القاضي صوان سماع رئيس الوزراء كمدعى عليه في الدعوى غير الموجودة، والتي لا يعرف بعد طبيعة الحدث موضوعها المفترض، وما إذا كان يؤلف فعلاً جرماً يمكن وصفه بالاعتداء على امن الدولة، هو معدوم الوجود وغير واجب الطاعة. وقد يحوّل الاهتمام الشعبي الى وجهة غير صحيحة مما يؤلف نوعاً من التغطية cover up.

أسند القاضي صوان قراره استجواب الرئيس الدكتور حسان دياب الى نص المادة 362 أ.م.ج. الذي جاء فيه: “ ان اظهر التحقيق وجود مسهم في الجريمة فيستجوبه بصفة مدعى عليه ”. لكن هذا القرار معدوم الوجود ومن السخف والظلم الشديدين الايحاء بأن الرئيس الدكتور حسان دياب هو من الذين تسببوا بهذه الكارثة.

وان اعطاء مثل تلك الاهمية التي أَعطيت لهذا القرار المعدوم الوجود يودي بحكم القانون على وجه أكيد ويسهم في وضع البلاد على المسار المؤدي الى حكم الارهاب وتجربة الثورة الفرنسية البائسة معه.