بين تأديب القضاة سرّاً وحق الجمهور في المعرفة

أثار حكم صادر في 24 شباط 2014 عن محكمة الإستئناف في بيروت الجالسة ، بموجب قانون المطبوعات ، كمحكمة درجة أولى في جرائم المطبوعات ، مسألة حق الجمهور في المعرفة فيما يتعلق بأسباب تأديب القضاة ، وذلك بعد أن تسبب في زوبعة إعلامية تمثلت في مقالات وتعليقات نشرتها الصحف ولا سيّما منها جريدتا ‘‘الأخبار’’ و‘‘السفير’’ . وقد تناول الحكم المذكور المدير المسؤول لجريدة ‘‘الأخبار’’ واحد المحررين فيهما . فقضى بتغريم كل منهما ستة ملايين ليرة لبنانية مع إلزامه بمبلغ خمسة عشر مليون ليرة لصالح المدعية القاضية السيدة رندا يقظان ، وهي محامية عامة في النيابة العامة الإستئنافية في بيروت .

وقد بلغ من بعض ردود الفعل المستنكرة لهذا الحكم ، أنها نددت بالمحكمة التي أصدرته وأدلت بأن هناك ‘‘حقاً بالتشهير’’ بالموظفين المرتكبين ومنهم القضاة ، واستشهدت بنص المادة 387 من قانون العقوبات الذي جاء فيها:

‘‘في ما خلا الذم الواقع على رئيس الدولة يبرأ الظنين إذا كان موضوع الذم ذا علاقة بالوظيفة وثبتت صحته ’’ .

نشأت القضية عن مقالات نشرتها ‘‘الأخبار’’ عن علاقة بعض القضاة بإخلاء سبيل ثلاثة مشتبه بهم في قضية مخدرات ، ظهر فيها أحد المحامين العامين في النيابة العامة الإستئنافية في بيروت على أنه البطل ، وان المحامية العامة يقظان أخذت الملف منه لسبب غير مفهوم ، فوافقت على طلب إخلاء السبيل المقدم إلى قاضي التحقيق قبيسي الذي أخلى سبيل اثنين منهم ‘‘بعد تدخل السفارة الأمريكية’’ . ثم أخلت الهيئة الإتهامية سبيل الثالث.

وجرت بعد ذلك إحالة القاضيين يقظان وقبيسي إلى المجلس التأديبي فنالا منه عقوبة تأديبية جرى تخفيضها من جانب الهيئة القضائية العليا للتأديب برئاسة الرئيس الأول لمحكمة التمييز . وعلى الأثر طلب القاضي قبيسي إنهاء خدمته في القضاء فكان له ما أراد وتابعت القاضية يقظان عملها وقدمت شكوى قدح وذم ضد ‘‘ الأخبار ’’ بموجب المرسوم الإشتراعي رقم 104/77 المتعلق بجرائم المطبوعات واقترنت هذه الشكوى بإدعاء النيابة العامة في بيروت بشخص زميلة للقاضية يقظان فيها . فأدلت جهة الدفاع بأن صدور القرار التأديبي هو كاف لإثبات صحة موضوع الذم المتعلق بالوظيفة عملاً بالمادة 387 المذكورة ، وان هذه المادة تعطيها ‘‘ الحق في التشهير’’.

لا بد قبل مناقشة هذا الزعم الخطير من وضع الوقائع في إطارها الصحيح .

فنلاحظ أولاً أن الملاحقة التأديبية التي تعرضت لها المدعية القاضية يقظان هي سرية بحكم القانون الذي يمنع الإعلان عنها ، لكنها ، وبالرغم من ذلك ، دخلت ضمن سلسلة الملاحقات التي كان وزير العدل السابق الأستاذ شكيب قرطباوي أعلن أنه تسبب بإطلاقها . ومن الشائع أن مكتب الوزير قرطباوي هو أحد مصادر المعلومات التي كانت تنشرها ‘‘الأخبار’’ وكان وزير العدل الأسبق ابراهيم نجار يعلن أيضاً، بمخالفة واجب السرية ، أنه تسبب في إطلاق ملاحقات تأديبية .

ونسأل : هل إنّ صدور حكم تأديبي سري هو إثبات لزعم أن القاضي الذي تناوله الحكم قد إرتكب ما نُسب اليه في الإعلام؟

إن الخطأ التأديبي هو ذو طبيعة مسلكية. وهناك فرق شاسع بينه وبين الجريمة الجزائية التي يعاقب عليها القانون. وفي شأن تأديب القضاة ، فإن المادة 83 من قانون القضاء العدلي عرفت الخطأ الذي يبيح الملاحقة التأديبية كما يلي :

‘‘كل إخلال بواجبات الوظيفة وكل عمل يمس الشرف أو الكرامة أو الأدب يؤلف خطأ يعاقب عليه تأديبياً . يعتبر بنوع خاص إخلالاً بواجبات الوظيفة التخلف عن الجلسات وتأخير البت بالدعاوى وعدم تحديد موعد معيّن لإفهام الحكم عند ختام المذاكرة والتمييز بين المتقاضين وإفشاء سر المذاكرة ’’ .

فما هو الخطأ التأديبي الذي إرتكبه القاضيان يقظان والقبيسي ليعاقبا عليه تأديبياً ؟

لا أحد يعرف أو بإمكانه أن يعرف الجواب ، لأن قانون القضاء العدلي يوجب أن يكون المحاكمة التأديبية سرية وسريعة جداً . فيستحيل أن تشكل واقعة صدور حكم تأديبي إثباتاً على أي شيء . والحكمة من ذلك أن القاضي الذي تعرض للملاحقة التأديبية لأسباب محض مسلكية وبقي في القضاء لا يجوز أن يتعرض للتجريح في كرامته بنشر هذه الأسباب وإلا فقد قدرته المعنوية على متابعة ممارسة مهام وظيفته . هذا في لبنان ، لكن بلاداً كثيرة تبيح نشر الأحكام التأديبية للقضاة . لكن مضمونها لا يهمّ أحداً سوى القضاة والمحامين ونادراً ما يصل إلى وسائل الإعلام .
وأحياناً فإن الحكم التأديبي ، الناتج عن محاكمة سرية وسريعة قليلاً ما يتوافر فيها حق الدفاع ، يصدر فاقداً للأساس القانوني ودون تطبيق القواعد العامة المتفق عليها فيه . وعلى سبيل المثال فإن أحد كبار القضاة الذين تناولتهم الصحف بمعلومات تمّ تسريبها من مكتب وزير العدل السابق تعرض للتشهير بعد أن استند الوزير في طلب ملاحقته إلى شريط تسجيل فيديو لم يتم أبداً ضبطه أو تفريغه أو إعطاء القاضي صورة عنه لممارسة حق الدفاع ، مع أنه تمّ عرضه على الوزير وعلى هيئة التفتيش القضائي . لكن صاحب الشريط الذي هو محام رفض إعطاءه للقضاء المختص مدلياً بسرّ المهنة ، مما يؤلف قرينة على أن الشريط غير صحيح . ومع ذلك تمّ صرف القاضي من الخدمة .

لا شك أنه وعند الإثارة الإعلامية لموضوع من نوع دور القاضيين يقظان وقبيسي في إخلاء سبيل مشتبه بهم في قضية مخدرات ، فإن الجمهور يتقبل الفكرة السيئة تحت وطأة الجو العارم من العداء العام للنظام السياسي ومن قلة الثقة بالنظام القضائي ككل . وعندما تحجب المعلوبات الصحيحة المتعلقة بهذا الأمر ، وحتى ولو كان للحجب أسباب مشروعة كالحفاظ على سرية التحقيق ، فإن ذلك يولد مزيداً من الريبة العامة والتفسير السيء .

ولا يمكن معالجة هذا الوضع المؤسف بإصدار بيان دفاعي من نوع البيانات التي تصدر من وقت لآخر تحت عنوان المكتب الإعلامي لمجلس القضاء الأعلى والتي لا تعطي أية معلومات جدية بل تقوم على إنكار شامل لكل سبب من أسباب الإرتياب، الأمر الذي قد يعزز التفسير السيء للأمور .

وإن حق الجمهور في المعلومات الصحيحة والصادقة هو ما لا يمكن إنكاره أو تجاهله . ويكون ذلك بنشر القرار الظني أو الإتهامي الذي يجب أن يصدر في الدعوى على وجه السرعة عندما لا يعود هناك ما يهدد سلامة التحقيق.

واليوم وبعد مرور زهاء عشرة أشهر على إخلاء سبيل المشتبه بهم ، بقرار من قاضي التحقيق السابق قبيسي وموافقة النيابة العامة ممثلة بالقاضية يقظان، الذي تلاه فوراً إخلاء سبيل المشتبه به الثالث بقرار من الهيئة الإتهامية ، وبحسب علمي ، فإن التحقيق في هذه القضية لم ينتهي ، ولم يصدر بعد قرار ظني أو إتهامي يتم نشره ويضع حداً لكل الشكوك في هذه المرحلة .

أقول : ‘‘ في هذه المرحلة’’ لأن المشتبه بهم الذين يصبحون ، بصدور القرار الظني أو الإتهامي لغير صالحهم، أظناء أو متهمين يستمرون في التمنع بقرينة البراءة حتى يصدر حكم نهائي ضدهم . أما إذا صدر القرار لصالح المشتبه بهم الذين تمّ إخلاء سبيلهم جميعاً ، فإنه يتم وضع حد للشكوك بصورة أسرع .

عشرة أشهر كانت أكثر من كافية لتلبية حق الجمهور من الغرفة في موضوع هام يتعلق بالتشكيك في نزاهة القاضيين اللذين تمت ملاحقتهم تأديبياً واللذين فضل أحدهما ، محافظة على كرامته ، ترك القضاء .
أما الحق المزعوم في التشهير ، والذي إيدته بعض الجمعيات وأيده بعض المحامين ، فإنه يتنافى تماماً مع الحماية التي أقامها قانون الجزاء للأعراض والكرامات . وإن الشريعة الإسلامية تعاقب على أفعال القذف والنميمة . وأما الذم الذي يتعلق موضوعه بالوظيفة والذي تجيز المادة 387 من قانون العقوبات إثبات صحته فهو ذلك الأمر المتعلق بعمل معيّن ينسب إلى موظف عمومي ، وهو يختلف عن التحقير والقدح الذي هو من نوع الفاظ الإزدراء والسباب مما يؤلف جوهر التشهير . لكنه ليس تشهيراً أن يجمع إعلامي معلومات موثقة بمستندات وشهادة شهود معتبرين ، تثبت وجود شبهة جدية بإرتكاب جريمة ما من جانب الموظف العمومي مهما علا شأنه ، وينشرها. غير أن الإعلامي يظل مسؤولاً شخصياً عن ما نشره حتى تثبت صحة أقواله أمام المرجع القضائي المختص. وهذا ما يعرف بالإعلام الإستقصائي الذي يلبي حق الجمهور في المعلومات بصورة مسؤولة.

ماذا تعلمنا حتى الآن من هذه القضية ؟ لقد تعلمنا :

(1)ان للجمهور الحق المشروع الذي لا يجوز إنكاره أو تجاهله في الحصول على المعلومات الأكيدة والصحيحة وبالسرعة الممكنة .

(2)ان تلبية حاجة الجمهور في الوصول إلى الحقيقة لا تكون بالإنكار الشامل بل بإعطاء ما يمكن إعطاؤه من المعلومات الصحيحة وبتسريع التحقيقات توصلاً إلى نشر القرار الصادر فيها ، سواء كان لصالح المشتبه بهم أو ضدهم ، في أسرع وقت ممكن . وفي القضية الحاضرة ، ولأنه تمّ نشر ما نُشر ، فان شهراً واحداً كان كافياً لإنهاء التحقيق وإصدار القرار الظني أو الإتهامي .

(3)كان من الخطأ ان يعلن وزيرا العدل السابق والأسبق أنهما تسببا في ملاحقات تأديبية كثيرة ضد القضاة وان يذيعا ، أو يجيزا إذاعة ، بعض تفاصيلها إن مباشرة أو بصورة غير مباشرة ، مما يخالف القانون .

(4)ان المخالفة التأديبية هي مسلكية الطابع . وإن الخطأ ألتأديبي شيء والجريمة الجزائية شيء آخر . وإن الخطأ التأديبي، في حال ثبوته، ليس إثباتاً على ارتكاب جرم جزائي . ولكن العكس صحيح.

(5)انه كان ، ولا يزال، من الممكن لوزير العدل ولرئيس هيئة التفتيش القضائي أن يمارسا صلاحياتهما لتسريع التحقيق في هذه القضية وإصدار القرار فيه دون مزيد من التأخير إشباعاً لحاجة الجمهور إلى معرفة الحقيقة وإحقاقاً للحق . وإنني أدعوهما لذلك !