الإطار الدستوري والواقعي للإنتخابات الرئاسية الأمريكية

من السوابق التي تميزت بها الانتخابات الرئاسية الامريكية الاخيرة سابقة انحياز نحو تسعين بالمائة من وسائل الاعلام الامريكية المكتوبة، وفي طليعتها نيويورك تايمس وواشنطن بوست، لجانب المرشحة هيلاري كلنتون وضد المرشح دونالد ترامب الى درجة التعامل معه ومع أخباره بقسوة وتهكم ومع التأكيد بأن ترشحه غير جدي وهو لا يملك أية فرصة للنجاح لأنه غير مؤهل للرئاسة. كما أن غالبية شبكات وسائل الاعلام المرئية تعاملت مع المرشح دونالد ترامب بذات الطريقة وبكل قسوة وبكثير من السخرية. وبعد فوز ترامب الكاسح فإن معظم وسائل الاعلام الامريكية التي ناصبته العداء لم تبدل موقفها منه. ولا عجب ان تكون وسائل الاعلام الاوروبية قد جارت وسائل الاعلام الامريكية وان تكون بعض وسائل الاعلام اللبنانية قد تأثرت بما تقدم.

وقد لفتني من المقالات الكثيرة المنشورة بهذا الشأن مقال الاستاذ جهاد الزين في “ النهار ” في 24/11/2016 بعنوان: “ عندما يأتي ترامب متهيباً الى مبنى العدو، النيويورك تايمس ” ومقاله فيها في 10 كانون الاول 2016 بعنوان: “ كأن أمريكا تتجه الى أزمة نظام سياسي ”.

ولاحظت أنه وردت في المقال الاول مقارنة ضمنية بين “ برج ترامب ” الشهير في منهاتن ومبنى التايمس حيث عقد اللقاء بين الرئيس الامريكي المنتخب وكبار محرري الصحيفة. كما لاحظت في المقال الثاني التنويه بحصول المرشحة الخاسرة هيلاري على مجموع أصوات على مستوى الولايات المتحدة الامريكية بكاملها يفوق الاصوات التي حصل عليها ترامب، والتساؤل عما قد يعني ذلك ان بإمكان هيلاري إنتزاع أصوات بعض المندوبين من ترامب فتتغير النتيجة. وسأتناول الملاحظتين بدءاً من الملاحظة الثانية لأنها أولى بالاهتمام بها.

ولا بدّ من التنويه، بادئ ذي بدء، أن ما يعرف بإسم: الولايات المتحدة الامريكية، ليس دولة وحدوية بل هو إتحاد بين دول ذات سيادة، وأن الترجمة العربية لعبارة United States of America هي خاطئة تماماً لأن كلمة States تعني دول. والترجمة الصحيحة هي “ الدول المتحدة في أمريكا ” وقد نشأ الخطأ في الاسم العربي منذ أن كانت الاقاليم الثلاثة عشر المؤسسة للاتحاد provinces بريطانية تحت التاج البريطاني وتتمتع بقدر واسع من الحكم الذاتي ويُعتبر أهلها مواطنين بريطانيين ولها مجالسها التشريعية المنتخبة وتنتخب كل منها حاكمها. وعندما تحولت بعد الثورة الامريكية الى دول، وأقامت هذه الدول فيما بينها إتحاداً، فإن من ترجم اسم هذا الاتحاد الى اللغة العربية تشبث بوصف قديم لحالتها الدستورية بإعتبار ان ال province الذي كان يشبه “ الولاية ” ما زال قائماً.

وبموجب الوثائق التي نشأ عنها الاتحاد، إحتفظ كل من دوله الاعضاء بسيادته الكاملة ما عدا ما تم التخلي عنه منها لصالح الاتحاد. وقد أدى تعاظم شوكة الاتحاد في وجه معارضة المتشبثين بحقوق الدول الى نشوب الحرب الاهلية الامريكية في العام 1861 التي استمرت حتى العام 1865.

وفي الصيغة الاتحادية الامريكية، حلت محل التاج البريطاني رئاسة الدولة الاتحادية بصلاحيات محددة بالدستور. ولأن الدول الاعضاء في الاتحاد كانت ولا تزال متفاوتة الكثافة البشرية والمساحة الجغرافية (فإن الدول الاكبر مساحة هي الاقل كثافة سكانية والعكس بالعكس) فقد أعطيت السلطة التشريعية الاتحادية الى مجلسين: مجلس الشيوخ Senate الذي تتمثل فيه كل دولة، مهما بلغ عدد سكانها أو بلغت مساحتها، بشيخين إثنين، ومجلس الممثلين Representatives، أي النواب، الذي يتمثل فيه عامة الناخبين في دوائر انتخابية داخل كل دولة مقسمة بحسب العدد. ويسمى المجلسان معاً: “ مؤتمر ” وباللغة الانكليزية Congress كونغرس. وتم الاصطلاح على تسمية مجموع أعضائه الآتين من كل دولة بوفد delegation تلك الدولة الى الكونغرس.

واتخذ الدستور الاتحادي من هذين العددين، أي عدد الاعضاء في مجلس الشيوخ وعددهم في مجلس الممثلين، اساساً لصيغة تشارك فيها وعلى اساسها الدول الاعضاء في انتخاب الرئيس الاتحادي. فيتم هذا الانتخاب بأصوات الدول، لا بأصوات مجموع المواطنين. فيكون لكل دولة عدد من الاصوات يعادل عدد أعضاء وفدها الى الكونغرس، أي الشيخان والممثلون بالغاً ما بلغ عددهم. وتمثل هذه الاصوات الانتخابية الدولة في انتخاب رئيس الاتحاد في أشخاص ناخبين منتدبين تطلق عليهم تسمية Electors. وتضاف اليها ثلاثة أصوات لمقاطعة كولومبيا District of Columbia حيث تقع واشنطن العاصمة. وهذه المقاطعة ليست بدولة ولا تتمتع بأية سيادة بل تقع تحت الحكم المباشر للاتحاد.

وليس هناك من قانون انتخابات اتحادي، بل ان انتخاب الرئيس وممثلي الدولة في الكونغرس يخضع للقانون الداخلي لكل دولة عضو. وفي الانتخابات الرئاسية التي جرت في 8 تشرين الثاني الماضي فإن كلاً من المواطنين الامريكيين الذين شاركوا بها صوت لمرشحه الرئاسي المفضل. لكن هذا التصويت تُرجم فوراً بالتصويت للناخبين ـ المنتدبين المحددة اسماؤهم سلفاً وإن لم تظهر على قائمة المرشحين. إذن هناك مرشحون رئاسيون وهناك ناخبون – منتدبون عن كل منهم.

ويتم إختيار الناخبين ـ المنتدبين مقدماً من جانب الحزب و/أو المرشحين بالذات. وهم، أي الناخبون ـ المنتدبون، إما ملزمون قانوناً بإختيار المرشح الذي عينهم إن مباشرة أو بواسطة حزبه، أو يوقعون تعهداً خطياً ملزماً بذلك. وتتألف من مجموع كل منهم هيئة ناخبة Electoral College في الدولة تجتمع وتنتخب الرئيس الذي صوت له الناخبون فتحسب أصواتها كأصوات الدولة في الهيئة العمومية التي تسمى أيضاً Electoral College.

وهذا المجمع العمومي لا يجتمع أبداً، بل ان حاكم كل دولة، وإستناداً الى النتائج النهائية التي تؤكد حصولها الجهة الرسمية المختصة فيها، يصدر شهادة بها إثباتاً لعدد الاصوات التي نالها الناخبون ـ المنتدبون عن كل مرشح من المرشحين، سواء الذي فاز منه أو لم يفز، على عدد من النسخ الاصلية، يرسل أحداها الى مدير الارشيف الوطني، قبل إنتهاء تاريخ يحتسب على نحو معين، وهو في الحالة الحاضرة 19 كانون الاول، على ان يكون قد تم الفصل في كل خلاف حول تعيين الناخبين ـ المنتدبين قبل نهاية يوم 13 منه. وفي يوم 19 منه فإن الناخبين ـ المنتدبين يجتمعون في كل دولة على حدة وينتخبون الرئيس ونائب الرئيس وتدوّن النتيجة في شهادة رسمية ترسل على عدة نسخ أصلية مرفقة بشهادة الحاكم بصحتها الى كل من رئيس مجلس الشيوخ الاتحادي وأمين سر الدولة في الدولة ومدير الارشيف الوطني والرئيس الاول لمحكمة المكان الذي تم فيه الاجتماع. وفي 6 كانون الثاني 2017 فإن الكونغرس يجتمع بمجلسيه في جلسة مشتركة لتعداد الاصوات وفي نهاية الاجتماع يعلن رئيس مجلس الشيوخ النتائج الرسمية بعد البت بأي خلاف يحصل. وفي حال ان أياً من المرشحين لم يحصل على الأكثرية المطلقة للاصوات وهي 270 صوتاً (النصف زائد واحد) فإن مجلس الممثلين ينتخب الرئيس وينتخب مجلس الشيوخ نائب الرئيس. ويجب إلا ننسى دور المحكمة الاتحادية العليا التي هي المرجع الاعلى لحل كل النزاعات في الاتحاد وهي التي اعطت الرئاسة الامريكية للرئيس السابق جورج بوش في نزاعه على عدد الاصوات مع منافسه آل غور.

وان الحملة الانتخابية الرئاسية تجري وفقاً للقواعد المنوه عنها. فيسعى كل مرشح للحصول على أكثرية اصوات الناخبين ـ المنتدبين في كل دولة على حدة لا على أكثرية من مجموع اصوات المواطنين في البلاد بأسرها. وفي القضية الحاضرة فإن الرئيس المنتخب لم يخطط للحصول على أكثرية شعبية قد تنتج عن الفوز في دولتين من أكثر دول الاتحاد كثافة سكانية وهما نيويورك وكاليفورنيا لأن ذلك لا ينفعه شيئاً لميل الناخبين فيها تاريخياً للتصويت للمرشح الديمقراطي أي للمرشحة هيلاري. وهذه هي القواعد rules التي تخضع لها الانتخابات الرئاسية الامريكية والتي لا تقيم وزناً لمجموع أصوات كل المواطنين الامريكيين مهما بلغت لأن المطلوب هو الفوز بأصوات الدول على النحو المبين أعلاه.

وهذا ما يقودنا الى البحث في مسألة كلفة الحملات الانتخابية، فإن الارقام المنشورة حديثاً تبين أن المرشحة الخاسرة هيلاري كلنتون انفقت أكثر من 1200 مليون دولار دولار على حملتها في حين ان المرشح الناجح دونالد ترامب انفق ما لا يزيد عن 600 مليون دولار. وقد تم بالتزامن مع الانتخابات الرئاسية انتخاب عدد كبير من اعضاء مجلس الشيوخ ومجلس الممثلين على المستوى الاتحادي ومثلهم على صعيد كل دولة من دول الاتحاد، يضاف اليهم القضاة والمسؤولون الاقل شأناً في كل دولة منها. وكل من تلك الحملات الانتخابية تكلف المال الكثير بحيث ان ما تم انفاقه عموماً في سائر الحملات الانتخابية يقدر بمليارات الدولارات. فمن أين تأتي هذه الاموال ؟ ان بعضها تقدمه خزينة الاتحاد او الدولة وفقاً لشروط صارمة أما معظمها فيأتي من اصحاب رؤوس الاموال الذين يؤلفون جزءاً لا يتجزأ مما يؤلف ال establishment أي مجموع الناس الاكثر نفوذاً ومالا وتأثيراً على الحكم وعلى إدارة الاتحاد والدولة ومنهم كبريات وسائل الاعلام مما يقترب كثيراً من المفهوم الاسلامي الذي يحمل عنوان: أهل الحل والعقد. وهذا ما يعيدنا الى الملاحظة الاولى أعلاه.

يلاحظ أن صحيفتي نيويورك تايمس وواشنطن بوست لا تحتلان اعلى التراتبية من حيث توزيع الصحف الامريكية. وكل منها لا يوزع من النسخ المطبوعة الا ما يناهز النصف مليون نسخة يومياً. وإن اكثر الصحف توزيعاً هي صحيفة USA Today وتليها وول ستريت جورنال Wall Street Journal. وبسب ما تتعرض له وسائل الاعلام المطبوعة عامة من ضغوط مالية تم شراء شركة واشنطن بوست بمبلغ 250 مليون دولار وضمها الى مجموعة شركات أمازون. أما النيويورك تايمس فان اكبر مساهم فيها هو الملياردير المكسيكي من أصل لبناني كارلوس سليم الذي يملك من اسهمها المطروحة في السوق أكثر من مجموع الاسهم التي تملكها عائلة سلزبرغر التي يقودها ارثر سلزبرغر الذي هو ناشر تايمس ورئيس مجلس ادارتها في آن معاً.

تستخدم التايمس اكثر من 3500 شخصاً ويزيد رقم اعمالها السنوي عن المليار ونصف المليار دولار. وان “ المبنى ” الذي تشغله على مفترق الشارع 41 والجادة الثامنة في منهاتن هو عبارة عن ناطحة سحاب اكبر واعلى من ‘‘ترامب تور’’ وتم إنشاؤه على انقاض ثمانية ابنية استملكتها شركة تابعة لبلدية نيويورك وقامت بهدمها وبتأجير ارضها الى شركة نيويورك تايمس ببدل مخفض لمدة 99 سنة. وأن ما قامت به تايمس من استقبال الرئيس المنتخب ترامب هو جزء من تقليد قديم لها. فهي استقبلت بذات الطريقة الرئيس اوباما والمرشحة الرئاسية هيلاري كلنتون عدداً من المرات كما انها استقبلت وتستقبل رؤساء الحكومات والدولة الاجنبية. وكذلك تفعل واشنطن بوست. ومن المعمول به والمتفق عليه ان الصحيفتين لا تنشران وقائع الاجتماع مع زوارهما بل تحتفظان به من أجل الاستفادة من مضمونه من كل وجه.

وختاماً لا بدّ من التنويه بأن ترامب قام مرتين بما يشبه الانقلاب على ال establishment التي خرج من رحمها. فهو هزم السياسيين التقليديين في الحزب الجمهوري وفاز بترشيحه رغماً عنهم، ثم قاد هذا الحزب الى الانتصار في الإنتخابات ليس فقط بنجاحه شخصياً بل بنجاح الجمهوريين بفضله في الاحتفاظ بالاكثرية في مجلسي الشيوخ والممثلين. فهزم بذلك ال establishment بجناحيها الجمهوري والديمقراطي.

ومن المحتمل ان ينتج عن زعامته للدول المتحدة في امريكا تحوّل جذري في سياساتها الاقتصادية والدولية والعسكرية القائمة على المبادئ التي أعلنها ترامب خلال حملته الانتخابية مما يوجب التريث في إتخاذ المواقف منها إلى ما بعد توليه السلطة فعلياً في 20 كانون الثاني 2017 والبدء في تنفيذه هذه السياسات الجديدة. وإن ما يعنينا لبنانياً وعربياً من المبادئ المذكورة حتى الآن هو مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول وعدم السعي لتغيير حكوماتها بالقوة والتعاون مع الحكومتين الروسية والسورية في مقاتلة المسلحين المتطرفين الذين يرفعون شعارات إسلامية مزعومة.

(نشرته جريدة النهار صباح الخميس 15-12-2016 في صفحة القضايا ببعض التصرف)