بين حكم القانون والإستبداد يجب أن يقوم سدان عظيمان : القضاء والإعلام

في هذه الأيام التي ما زال اللبنانيون يشكون فيها، الى حد اليأس، من فقدان النزاهة في الحكم وفي مختلف مراتب الدولة، تبرز أكثر وأكثر أهمية الدور الذي كان يجب أن يؤديه النظام القضائي الوطني في استعادة النزاهة المفقودة . وهذا ما يتطلب إعادة التذكير بماهية السلطة القضائية ومكانتها بين السلطات الدستورية التي ترتكز عليها الدولة وجوداً وعدماً .

وأبدأ بتفنيد الخطأ الشائع الذي يتمثل في الخلط بين (1) المحاكم و (2) مجلس القضاء الأعلى و (3) السلطة القضائية . حتى ان بعض النخب وقعت أو تقع فيه ومنها رئيس مجلس القضاء الأعلى الذي أعلن حديثاً جداً في الإحتفال بأداء اليمين لقضاة جدد قائلاً : ‘‘ نحن نسعى جاهدين لنكون سلطة قضائية ’’ .

وكانت النيابة العامة الإستئنافية في بيروت ادعت في عهد مجلس القضاء الاعلى الأسبق على محام بجرم القدح والذم، لأنه صرّح بأن مجلس القضاء الأعلى ليس هو السلطة القضائية المنصوص عنها في الدستور !

ألأصل هو أن السلطة القضائية هي واحدة من السلطات الدستورية الثلاث التي أقامها الدستور والتي تتم ممارستها على الوجه الآتي :

– مجلس النواب يتولى السلطة المشترعة (م 16) .
– السلطة الإجرائية ( أي التنفيذية ) مناطة بمجلس الوزراء (م 17 ) .
– السلطة القضائية تتولاها المحاكم ( م 20 ) .

وبالتالي فليس مجلس النواب هو السلطة الإشتراعية بل هو الهيئة التي تتولى ممارستها . وليس مجلس الوزراء هو السلطة التنفيذية ، بل هو من يمارسها ، وليست المحاكم هي السلطة القضائية ، بل هي التي تتولاها .

وإن مجلس القضاء الأعلى ليس بمحكمة ولا يحق له أبداً ان يمارس السلطة القضائية بل هو هيئة إدارية تشتمل صلاحيتها على وضع مشاريع المناقلات القضائية وعرضها على وزير العدل للموافقة عليها ، والنظر في طلبات العفو الخاص ، وتأليف المجلس التأديبي. وهو لا ينظر في دعوى ولا يصدر حكماً . وأما رئيس مجلس القضاء الأعلى فان أهم صلاحية له هي دعوة المجلس للانعقاد وترؤس جلساته .

وهنا يتم الخلط بين صلاحيات رئيس مجلس القضاء الأعلى وصلاحيات الرئيس الاول لمحكمة التمييز . فإن الرئيس الاول لمحكمة التمييز هو الذي يتولى حكماً رئاسة مجلس القضاء الاعلى . إلا أن الصلاحيات المهمة التي تعود له هي بصفته الرئيس الاول لمحكمة التمييز لا بصفته رئيس مجلس القضاء الأعلى . وان التمييز بين الصفتين لازم على الدوام .

وان تعبير ‘‘ سلطة ’’ يعني القدرة على الأمر والنهي الذي ينفذ قهراً لأن المعنى الأصلي للمصدر ‘‘ سلط ’’ هو القهر . والسلطان هو قدرة الملك والسطوة . وباللغتين الفرنسية والانكليزية فإن الكلمة المستعملة بهذا المعنى هي ‘‘ القوة ’’ .

وفي الأزمنة الحديثة تم التوافق على حصر كل السلطات بالشعب الذي يفوض ممارستها على الوجه المنوه عنه اعلاه .

وتكمن أهمية التفريق بين السلطة والجهة التي أناط الدستور بها ممارستها أنه إذا اعتبر أحدهم نفسه ، أو كمجموعة، السلطة فإنه يصبح ، هو أو مجموعته ، القانون ، وعلى سبيل المثال فإن الملك الفرنسي لويس الرابع عشر كان يحلو له أن يقول: الدولة هي أنا، وبالتالي فإنه يطبق ما يخيل له أنه القانون ، بدلاً من أن يطبق القانون . أما إذا اعتبر نفسه ، كما يجب ، صاحب تفويض بممارسة السلطة فإن هذه الممارسة لا تكون إلا بتطبيق القانون الذي وضعته لها الجهة الصالحة وهي التي تتولى السلطة التشريعية ، وفقاً للشروط المنصوص عليها في القانون والدستور . ومن هنا نشأت قاعدة حكم القانون التي تعني أن الناس محكومون بالقوانين لا بأشخاص الحكام .

فإذا مارس هؤلاء القهر بغير القانون فإن ذلك هو الإستبداد بعينه .

ومن يقرأ إعلان استقلال الولايات المتحدة الأمريكية ، الذي كتبه توماس جفرسون ، أحد أشهر آبائها المؤسسين، يرى أنه عبارة عن مرافعة بليغة ضد الإستبداد الذي كان يمارسه الملك البريطاني جورج الثالث على مستعمراته في أمريكا الشمالية ، فتمت صياغة الدستور الفدرالي بعد سنوات من ذلك الإعلان على قاعدة حكم القانون.

وقد تطورت ممارسة السلطة القضائية في كل أنحاء العالم لتصبح أحد سدين عظيمين في وجه الإستبداد ، فالسد الاول هو القضاء ، الذي من واجبه أن يوفر، بالشراكة مع المحامين وسائر القانونيين، الحماية القصوى والأخيرة للحقوق والحريات وذلك بتكريس حكم القانون ، أما السد الثاني فهو الإعلام ، الذي سمي مجازاً ‘‘السلطة الرابعة ’’، وهو، إذا أحسن القيام بدوره، يكشف على الملأ حقائق ما يحصل من تعديات على الحقوق والحريات .

وان البلاد التي لا يقوم فيها هذان السدان العظيمان اللذان يقومان على أكتاف القضاة والمحامين والإعلاميين المتحلّين بالنزاهة والشجاعة والإستقلال والقدرة على كشف الحقيقة ورفع الظلم عن الناس، هي بلاد غارقة في ظلام الإستبداد .

مع مودتي .

المحامي محمد مغربي