فساد السمكة يبدأ من رأسها !

لست صاحب هذا القول (الذي اتبناه دون اي حرج). بل ان صاحبه هو الرئيس سامي الصلح الذي جهر به في 9 ايلول 1952 على باب مجلس النواب وهو خارج منه بعد ان القى فيه خطاباً عاصفاً انهاه بإعلان استقالته من رئاسة الوزراء دون تقديم كتاب استقالة خطي ! واقتطف من هذا الخطاب الشهير:

“ مما لا شك فيه ان ثمة نقمة وتذمراً وشكوى عامة من حالة الفساد والفوضى والطغيان… نتيجة الاستهتار بالقوانين… وتسخير مرافق الدولة ومصالحها لحساب الافراد الذين يعملون من وراء الستار غير مقيمين حرمة للقيم الدستورية…

مما الشكوى ايها السادة ؟

إن ارباب النفوذ الذين يحكمون ولا يُسألون يتدخلون في كل شاردة وواردة. يتدخلون في القضاء ويطلبون من القضاة ومن الموظفين ان ينهجوا خططاً تطابق سياستهم وتخدم مآربهم الحزبية، على حساب العدالة والقانون. والويل كل الويل للقاضي والموظف الذي يضرب بمشيئتهم عرض الحائط استجابة لنداء الضمير.

هذه هي الحالة التي وجدناها وبلوناها ونحن نمارس الحكم. وعندما بدأنا نضع حداً لهذا الشذوذ، بدأ ارباب النفوذ بمحاربتنا.

اردنا تطبيق القانون فحاربونا…

حاربونا لاننا ابينا ان نضع الانظمة والقوانين ومصالح الدولة في خدمة اطماعهم وشهواتهم واغراضهم وتوصياتهم الهاتفية…

مما الظلم والاستبداد؟

تتعالى الاصوات شاكية متذمرة من الفساد، فساد الحكم، فساد الادارة، فساد الاخلاق…

لقد جوعوا الشعب وارهقوه. وقالوا ان في البلد روائح كريهة، وهل إلاّ من بين ايديهم وتحت ارجلهم تفوح الروائح الكريهة ؟

هذا هو الجو الموبوء التي تعيش فيه الحكومات في لبنان، فكيف تريدون ان يتحقق اصلاح ونجاح اذا لم تستأصل شأفة العلة القاتلة وتقتلع جذورها ؟ ”. (انتهى الخطاب)

أفلا يصلح هذا الخطاب لوصف حالة البلاد اليوم، أي بعد ما يناهز السبعين عاماً من تاريخ القائه ؟

في 18 ايلول 1952، اي بعد تسعة ايام من هذا الخطاب، استقال رئيس الجمهورية الشيخ بشارة الخوري. وكان هو ما عناه الرئيس الصلح بعبارة “ رأس السمكة ” الذي كان يحيط به سائر ارباب النفوذ من الاسماك الكبيرة وفي طليعتهم شقيقه الملقب بالسلطان سليم وزوجته السيدة لور شيحا وأقرباؤها من كبار رجال الاعمال ومنهم اصحاب بنك فرعون وشيحا.
وبإستقالة الشيخ بشارة أفل نجم السلطان سليم والست لور وجماعة كل منهما.

ومما لا شك فيه ان ارباب النفوذ الذين كان الرئيس الصلح يشكو منهم قد زالوا بأشخاصهم لكن ورثةً لهم حلوا محلهم، وان اسماكاً جديدة قد ولدت، منذ العام 1952 وحتى اليوم، وكبرت وتكاثرت وكلها رؤوس فاسدة وأشد ضراوة وطمعاً وتسخر مرافق الدولة ومصالحها لاغراضها.

ومن الثابت ان الشعب الذي كان جائعاً ومرهقاً في العام 1952 اصبح اشد جوعاً وارهاقاً في العام 2018.

وإنه مما لا يقبل الجدل ان مجلس النواب الجديد قد ولد من ارحام هذه الاسماك وتلك. ومن المنتظر ان الحكومة الجديدة سوف تتشكل من رحم المجلس الجديد.

فكيف تُستأصل شأفة العلة القاتلة وتقلع جذورها في مثل هذا الجو الموبوء كما طالب الرئيس سامي الصلح منذ سبعين عاماً ؟

فلنتأمل قليلاً في سيرة هذا الرجل الطويل القامة. فهو جاء الى السياسة من القضاء في عصره الذهبي بعد ان تبوأ فيه اعلى المراكز منذ العام 1920 وحتى اوائل الاربعينات. وهو تولى بنفسه وزارة العدل في معظم الحكومات التي ترأسها وإلا فإنه ولى على هذه الوزارة رجال قانون كبار من عيار اميل تيان. كان والده موظفاً في الدولة العثمانية برتبة متصرف. ولم يكوّن الرئيس الصلح لنفسه ثروة ولم يترك ثروّة. بل عرف بلقب “ ابو الفقير ”. حرّض اخصامه من ارباب النفوذ على احراق منزله المتواضع وهدمه في العام 1958. فإنتقل الى منزل متواضع آخر ما يزال قائماً.

وبإختصار فإن الرئيس سامي الصلح لم يَخْضَعْ لارباب النفوذ او سواهم ولم يَخْضَعْ له احد من الفاسدين او من الزعران لانه لم يُحِطْ نفسه بهم.

كثر الحديث مؤخراً عن مكافحة الفساد ودخل في تصريحات وخطب كبار رجال الدولة والسياسة. ولكن كيف يكافح الفاسد فساده سوى بالانتحار او بتسليم نفسه مكبلاً الى رجال القانون؟ ومن يصلح لملاحقة ومحاكمة الفاسدين سوى رجال يشبهون الرئيس سامي الصلح في وقفته التاريخية في 9 ايلول 1952 ويماثلونه في العلم والنزاهة وحرية الضمير ونظافة السيرة والكف ويتميز كل منهم بأنه لم يَخضعْ يوماً لاحد، ولا ولن يَخضعَ لاحد، ولم يُخضِع احداً.

فهذه هي المواصفات الضرورية، والتي لا غنى عنها، لأفراد الفريق، من رجال السياسة والادارة والقضاء، الذي يستطيع، إن تولى زمام الامور، المباشرة بمبادرة استئصال شأفة العلة القاتلة واقتلاع جذورها وانقاذ الناس منها، وتطبيق القانون بإرسال الفاسدين الى السجون مما يضع حداً لممارسات ارباب النفوذ منهم.